Friday 11 October 2019

منفاك موطنك الوحيد







باتت الحياة في وطني كابوسا لا ينتهي..كل ما حولي صارعبثاً  خالصاً و صِرتُ  كجرسٍ صدئٍ معلقٍ في كنيسةٍ مهجورة, كلما مسته يدٌ تداعى ألماً ثم تلاشى أنينُه تدريجيا تاركاً ورائه صمته الحزين

ماذا جرى يا وطني؟ لِم لم يعد الحق و الباطل فيك حقيقتان ملموستان كما تعلمنا في زمن البراءة؟ أصبحا مجرد زاويةَ رؤيةٍ بحسبِ الموقع الذي تحتله و القوة التي تمتلكها. من أين تأتي تلك القوة الخفية التي تبعد الطيبة نحو الأقاصي و تُقرب القسوة نحو الأداني؟

 ماذا جرى لِحُماتِك و حُماتُنا؟ صِرنا نحن الأعداء و صار عدوهم هو الصديق! كانوا يموتون من أجلِ حفنة تراب  -ليمحوا عار نكسةٍ واحدة- و لا يتذمرون..و اليومَ يُفّرطون في الأرض و الماء و السماء -وتتوالى النكساتُ - و هم يتفاخرون

ماذا جرى لناسك في البيوت و في الشوارع وعلى المقاهي و الأرصفة؟ ما كل هذا الخوف الساكن في الزوايا و الحنايا  و القلوب ؟ خوفٌ كماءٍ راكدٍ في بئرٍ عميق إذا حاولت أن تلقي فيه حجراً صغيراًإستحالَ موجةً عارمةً ترتطم بوجهك و تُزلزل كيانك و ترديك غريقاً في بئر الخوف اللعين

ماذا جرى للأصدقاء و للفرقاء و لرفقاء الدرب و الأحبة؟ الكل يخذلك حين يحين دوره ...  ما كل هذا الخذلان؟ أهي كثرة الخيبات و الانكسارات و تكرارها المستمر ما جعل منهم مسوخاً  يتحملون الصدمات والأوجاع  بعيونِ منطفئةٍ  وجلودٍ ميتة  لا جدوى لها  و لا أدنى إحساسٍ بالألم؟ ما كنهُ تلك الهوة التي تكبر بينك و بين الجميع..لا إسم  لها  و لا حدود لإتساعها.. مسافةٌ لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها تتركك وحيداً معزولاً عن  كل ما أحببتَ يوماً فيصبح سياناَ لديك البقاءَ أو الرحيل

فيما مضى كنت أظن أن جذورنا هي ما تُبقينا راسخين في مواجهة العواصف و الخطوب.. الآن و قد هدأت كل العواصف بما في ذلك عاصفة الحياة نفسها..أصبح بإمكاني أن أرى الأشياء بوضوحٍ أكثر و بخوفٍ أقل.. أرى الآن أن تلك الجذور التي مددناها بحبٍ سوف تجمدنا في أماكننا حتى نتعفن فيها..وطنُنا تغير كثيراً و ما عاد في حاجةٍ لنا و لم يبق لنا منه ما يملأ قلوبنا و أفواهنا...لم يبق لنا منه سوى غبارُ الأوهام و الوجوه القديمة التي أحببناها يوماً حين كنا ساذجين. لم يبق سوى لحظات من سعادات تفلتت من بين أصابعنا و احتفظنا ببعضٍ من مذاقها في صناديق الذاكرة..و لأن ذاكرةَ الفقد كلابٌ مسعورة تنهش بلا رحمة  إذا أُطلقت من عقالها, صار لزاماً علينا أن نغلق تلك الصناديق بإحكام وننسى ..نتقبل مصائرنا الصعبة و نَنبِت بقوةٍ في  أرضٍ جديدة لن تصير لنا وطناً و لكنها ليست المنفى الوحيد بعد أن أدركنا أخيراً أن منفانا هو موطننا الوحيد



اقتُل أخاكَ أو انتحر
لولاك يا نسيان لأنقرضَ البشر
يا ويل إنسانٍ بقلب
في أي عصرٍ..أي قطرٍ.. أي شعب
حينَ الصدور بلا قلوب
مثل النعوش الفارغة
منفاهُ موطنه الوحيد
حتى على أرضِ الوطن
ما ذنبها الأوطان
حين يكون منفانا الزمن


"لزوم ما يلزم"