Thursday 21 March 2013

في انتظار ما لا يجيء




إلى كل أم أعطت و ضحت..إلى كل أم تنتظر  ابناً غائباً, أو حاضراً غائباً..إلى كل أم  لم تعد تنتظر شهيداً و تفتقد أيام انتظاره!



تركت جسدها -الذي أنهكه المرض-ممدداً فوق طاولة العمليات الباردة..و جالت بعينيها في الغرفة المخيفة..أغمضت عينيها..
غرفة مشابهة  في زمنٍ بعيد..طاولة عملياتٍ دافئةٍ..أو ربما جسدها المتصببُ عرقاً أقرضها بعضاً من لهفته للدفء القادم بعد طول انتظار..موجةُ ألمٍ -لم تعرف لها شبيهاً في عمرها الخالي من الهموم -تجتاح جسدها فتشطره شطرين..ثم تنحصر فتعيده كاملاً مفككاً ,استعداداً للموجة التالية..تتلاحق أنفاسها القصيرة لتكتم صرخاتٍ تأبى أن تصل إلى من يسكن أحشائها -و يحاول جاهداً أن يغادرها- فتخيفه..تستقبل الموجة الأخيرة بشوقٍ جارف..و حين تمر أخيراً..تضيعُ تنهيدتها الخافتة في صوت البكاء المحبب..تختلط دموع الفرحةِ بدموع الألم حين تستقبله هشاً مذعوراً بين ذراعيها ,فتضمه برفق و تستنشق رائحته المميزة للمرة الأولي..فيهدأ كل شيء!

فتحت عينيها..طاولةُ أدواتٍ مغطاةٌ بملائةٍ شاحبةِ البياض تراصت فوقها ألاتٌ معدنيةٌ لامعة..أغمضت عينيها..
مطبخها الدافيء في صباح بعيد تتخلله شعاعات الشمس المتسللة من النافذة المشرعة..ملعقتها وشوكتها الخشبيتان في مبارزة ضاحكة مع صغيرها تنتهي بقبلة كبيرة فوق أنفه المغطى بذرات الدقيق المبعثرة في كل مكان..سعادةٌ خالصة تمتزج برائحة القهوة و الفطائر الساخنة!

فتحت عينيها..شاشة مراقبة العمليات الحيوية تتصل بجسدها بأسلاكٍ دقيقةٍ,و أرقامٌ لا تفهم معناها تظهر فوق الشاشةِ السوداء..أغمضت عينيها ..
 غرفة المعيشة في ليلةٍ باردة..و شاشة التلفاز تعرض مشاهد توقفت عن متابعتها, تحاول جاهدة أن تتفهم قرار زوجها الحكيم بالسفر و أسبابه المنطقية!

فتحت عينيها..جهاز التخدير بأنابيبه و أجزائه الدقيقة, والرائحة الكريهة المحيطة به..أغمضت عينيها..
العطر الرجولي الهادئ الممتزج بالرائحة المميزة لولدها تملأ أنفها..تأخذ أنفاساً عميقة  حتى تتشبع رئتيها به..و تحاول عبثاً أن تبقيها..علّه يبقى! تحتويها ذراعاه في حضنٍ يفيض اعتذاراً و خجلاّ..فتربِّت على كتفه تفهماً و تشجيعاً..تراقبه يبتعد..و قد انحنت كتفاه تحت ثقل حقائبه..و انحنى رأسه تحت ثقل همومه..تقف في المكان ذاته الذي وقفت فيه منذ أعوام بعيدة توقفت عن عدّها لتودع غائباً آخراختار الرحيل لنفس الأسباب المنطقية!

فتحت عينيها .. لوحة الصور الشعاعية المعلقة على الجدارالمقابل لطاولة العمليات..أغمضت عينيها..
لوحة كبيرة ذات اطارٍ خشبيٍ مزخرف تملأها صور صغيرة متفرقة معلقة على الجدار المقابل لسريرها
 صورة زفافٍ قديمة بلا ألوان..صورة زفافٍ أخرى تنطق ألوانها بفرحة ولدها و عروسه..صورة طفلٍ رضيع يبكي خوفاً من مجهولٍ لا يعرفه!  
صورٌ كثيرة لطفلين يضحكان من القلب فتكاد ضحكاتهما تقفز من فوق الجدار لتملأ بصداها صمت الغرفة القاتل!
صورة عائلية تجلس في منتصفها..و قد احاطت بذراعيها حفيديها..و يقف خلفها ولدها و زوجته.
تقف كل مساء أمام تلك الصورة تحديدا..تُمرر أصابعها المرتعشة فوق وجوهها الصغيرة فتمرر الوجوه الباسمة إليها قليلاً من البهجة..و كثيراً من الدفء... و مزيداً من الوحدة !  

فتحت عينيها..وجوهٌ مخبأة خلف أقنعةٍ زرقاء تحيط بها..تبحث في العيون عن عينين بعينيهما..ولا تجدهما!
صوتٌ يأتي من أحدهم يخبرها أن لا جدوى من الانتظار..لأن رحلته قد أُلغيت في اللحظة الأخيرة..
تشعر بالمخدر البارد يسري أخيراً في عروقها..تثّبت عينيها على دائرة الضوء الساطع - حد الألم _ المتدلية من سقف الغرفة.
لا جدوى من الانتظار؟! لقد أضاعت العمر انتظاراً..تنتظر غائبٍ..ثم تنتظر غائبَين..ثم تنتظر غائبِين.. و حين يطول الانتظار يفقد معناه و يخبو ألمه..و يصبح فقط  نمط حياة.. فاذا كان انتظار الساعات و الأيام ناراً حارقة..فإن انتظار الشهورِ و الأعوامِ جليدٌ يكسو كلَ شيء! يخبو تحرّق الساعات و تحركها في جمود الأعوام و تشابهها..فيصبح العمرُ كلهُ يوماً واحداً طويلاً لا ينتهي إلا بمجيء من لا يجيء.
لا جدوى من الانتظار! تراقصت الأضواء الساطعة خلف دمعتي حسرة تأبيان التحرر من أسرهما
الأصوات من حولها تبتعد تدريجياً..و أصواتٌ مألوفة و ضحكات تتداخل مع صوت احتكاك عجلات الطائرة بممر هبوط..و صوت امرأة في المذياع الداخلي تعلن عن قيام رحلة أخرى..
لا جدوى من الانتظار! أغمضت عينيها على الدمعتين..
الغائبون قد يمرون من هنا..و لكنهم أبداً لا يرجعون!

Friday 15 March 2013

بعضُ النوارسِ تبقى



خطواته الواسعة السريعة تحمله إلى مكانه الأثير..عقله يحذره و قلبه يعاتبه..فتضطرب خطواته و تتوقف.
انه الوداع الأخير!..هكذا استجداه قلبه, فأذعن عقله صاغراً, و تواصلت خطواته ثقيلة متباطئة.. وصل لكنه لم يجده!!
اللسان الحجري الممتد في قلب البحر, و الذي يتنهي إلى صخرة طفولته و أحلامه.. تحول إلى مطعم فاخر تحُدّه أشجارُ نخيلٍ بائسة اِقتُلعت من أرضها الدافئة لتواجه أمواج البحر الغاضبة..و الرياح المبللة..و بشراً لا يأبهون لوجودها أو لحالها!
اجتاحه الغضب المعتاد..و اندفع داخلاً المطعم ..ماذا تركوا له؟!..سرقوا الحاضر و المستقبل, و لم يكفهم..فسرقوا  الماضي بذكرياته  التي جاء اليوم  خصيصا ليحزمها في حقيبة سفر شبه خاوية ليلوذ بها في برد أيامِ آتية بلا وطن و لا أحلام!ماذا تبقى له في وطنٍ لا يجيد سوى قتل الأحلام الوردية في القلوب الخضراء؟!

سار فوق السجاد الفاخر مشمئزاً..
هنا كان يلعب الكرة حافياً شبه عارِ مع أصدقائه حيناً و مع آخرين لا يعرفهم أحياناً.. و هنا سار منتشياً مع حبيبة العمر الماضي..و هنا أيضاً سار منكسراً بعد أن أدرك أن الحب وحده لا يكفي لتحقيق أحلام العمر القادم..فسقط العمرمنه في هوةِ زمنٍ رماديٍ لا طعم له و لا لون..
وصل لصخرته القديمة.. لا يفصل بينهما  سوى بابٍ زجاجي مغلق لم يستطع فتحه! هنا جلس كثيراً يرسم أحلاماً حدودها السماء و مداها البحر..و هنا جلس وحيداً يتعلم الصيد و الصبر,  يراقب بأسىً الموج المندفع يتحطم على حواف صخرته دون انذارٍ مسبق ليدرك أخيراً أن نهاية كل موجةٍ.. انكسار! 
هنا جلس طويلاً يراقب النوارس الهائمة بلا وطن تدور بلا هوادة.. يأتي بها الشتاء..ويرحل بها الربيع..يراقبها في اعجاب و هي تقترب من الأمواج الثائرة لتقتنص هدفها ثم تظل ثابتة للحظات فوق سطح الماء كأنها تتحداه..أو ربما ترجوه أن تبقى هنا لأنها قد ملّت الرحيل و اشتاقت إلى وطن..ثم في النهاية ترفرف بأجنحتها مضطرة, و تصدرأصواتها الحزينة التي يتردد رجعها اشتياقاً لمن رحلوا..و وداعاً للمزيد من الراحلين!
اليوم جاء هنا, لتودعه هو بلحنٍ خاص به وحده..جاء ليشعر ببرودة الهواء - المشبع بالملح- تخترق حواجز اليأس التي بناها حول نفسه..جاء ليشعر برذاذ الأمواج و الأحلام المتكسرة على وجهه ..و ها هو هنا..يفصل بينه و بين كل هذا بابٌ زجاجيُ بارد!

خطواته الواسعة السريعة تحمله إلى المكان الذي يفر منه الجميع..يغطي وجهه بشاله الفلسطيني الأبيض و الأسود..و يقترب من الاشتباكات و قنابل الغاز المتوالية التي تعبق المكان بدخانها اللعين..يقترب أكثر و هو يذكر نفسه عندما يعود - إن عاد - إلى البحر من جديد..أن يخبر النوارس انها تستطيع البقاء - فقط - إن أرادت!