Wednesday, 25 August 2021

غائب بلا عودة


 

 يلتقي الغرباء بالغرباء ..تغلق عليهم الأبواب فيصبح ذلك الحيز الضيق بيتك الذي تقتلك الغربة فيه بعد أن حال بينك و بين بيتك و أحبابك مسافات شاسعة و أسوارعالية و أسلاك شائكة  و مزاليج بأقفالٍ صدئة.

يلتقي الموجوعون بالموجوعين فيتقاسمون كل شيء و يمنحون كل شيء..فتتعلم مع الأيام أن وجعك جزء من كل لا يصح أبدا أن تبالغ فيه.. أن لا شيء ينتهي على ما يرام في واقع كالذي تحياه و لكن يكفيك ان ينتهي.. تدرك أنه و إن انتهى فالغصة في الحلق لا تتوقف بل تتواصل.. أنك لن تتخلص من الذعرالذي ينتابك في أوقاتٍ بعينها بل سيتحول بداخلك إلى خوفٍ مقيم...

.. يلتقي الحالمون بالحالمين..فتكتشف ضبابية الأحلام و ووضوح الواقع..بهتان المجرد و المطلق ودقة المجسد وصدق الحواس..تسقط الحياة ما فيك من رومانسية الحالمين و تمرغ أنفك في تراب الحقيقة شديدة القسوة..تتعلم أن العمائر ليست وحدها ما يسقطها الزمن.. أن البشر أيضا قابلين للسقوط.. و إن كان سقوط العمائر خاطفٌ و مدوٍ فإن سقوط البشر بطيء و صامت. 

في السجن و إن ضاقت جدرانه عليك متسعٌ لتأمل مفردات العمر المبعثرة في زحمة الحياة لأن النهارات و الليالي تأخذ وقتها كاملا غير منقوص..لكل ساعة حيزٌ تقطعه في أناه لا تزاحمها عليه الساعة التالية. الليل هنا لا يشبه سواه فهو ليل بلا سماء و لا نجوم و لا قمر..ليل طويل لا ينجلي و أيام تطبق على صدرك كضمة القبر..تستبيحك الأسئلة و تسخر منك الإجابات..الصواب الذي لم تهتدي إليه في حينه و الخطأ الذي ارتكبته و حسبته صواباً..خياراتك الصحيحة و مسالكك الخاطئة و خساراتك المتكررة التي تصفعك دائما..

  في السجن تفقد الأيام قيمتها فتصبح مجرد أرقام تمر عليها و تمر عليك  لتوصلك إلى لحظة الانعتاق..فواجعنا و مواجعنا تتكرر..تفقد التواريخ الخاصة مغزاها و المشاعر المصاحبة لها و ما تستدعيه من ذكريات.. تتمزق رزنامة الخصوصية و تتعطل و تصاب بتراكم الأوجاع طبقة فوق طبقة.. و ذات صباح حين يحين الوقت أخيراً و يفتح لك الباب تلملم ما تبقى منك على عجل و تودع غرباءاً ما عادو غرباء.. تاركا معهم جزءا غاليا منك لن تستطيع استعادته لأنك تركته هناك,, تمضي لتعود لأحبابك الذين غابوا لأقصى درجات الغياب. لكن عودتك لا تشبه ذهابك..ذهبت بشكل مباغت و في لمح البصر و لكنك حين تعود تعود في بطء شديد و على كتفيك أحمالا تنوء 

بحملها.. تعود لتجد أن العالم قد رتب نفسه بدونك في غيبتك الطويلة.. لا تدري ماذا يفعل العائد بالمستعاد..و ماذا يفعل المستعاد بالعائد.

هل يرجع الغائب حيث كان؟ هل يعود نفسه إلى المكان؟

تغيرت كثيرا و لا تستطيع أن تعود - مهما حاولت- إلى ما كنت عليه..أضحت بداخلك حياة أخرى لا يدركها من حولك و لا تستطيع أن تحكي عنها..أضغاث من لحظات و أحزان و مخاوف و آلام تتزاحم داخلك و تعجز عن اخراجها و لو حتى بالبوح..لأنك تدرك جيداً أن من عاش الألم ليس كمن سمع عنه..فتثرثرها لنفسك بنفسك بلا صوت و بلا توقف!

لم يعد يفرحك ما يفرح الآخرين و تخاف أكثر مما يخافون.. لم يعد يحزنك ما يحزنهم لأنك اختبرت من الحزن ما يفوق قدرتك على الاستيعاب.. تنعطب علاقتك بالأماكن التي كنت تتعلق بها بعد أن فقدت مذاقها كبقية الأشياء.. فتنفر منها و تشتاق إليها في ذات الوقت! تغترب في الأماكن عن الأماكن و مع الأحباب عن الأحباب.. تجتمع عليك الغربات و تغلق عليك الدائرة بإحكام.. فتبدو متباعدا نفوراً رغم هشاشتك المفرطة و حاجتك الماسة للإحتواء. تكتشف استحالة الإبتهاج المطلق بالمعثور عليه بعد الفقد لأن الشخص الذي مضى لايشبه الشخص الذي عاد .

لا غائب يعود كاملاً .. و لا شيء يستعاد كما كان!