Wednesday 29 August 2018

آخر كل حاجة






  المبنى الوردي العريق..تدنو منه وتلقي عليه السلام في صمت..تحتويه كاملاً مكمّلاً بعينيها ثم تتأنى فوق تفاصيله ببطء.. زخارفِ الأعمدة البيضاء حائلةِ اللون بفعل الزمن المثابر و نسائم البحر القريب.. البابِ الحديدي الأسودِ المغلق بإحكام على أجمل أيام العمر.. الجدران ِالوردية المنقوش فوقها بأسودٍ لا لبس فيه أسماءاً و تواريخاً و وعود صداقة و حبٍ إلى الأبد لم تتحقق كسابق الوعود..النوافذ ِالشامخة التي يعود تصميمُها لبدايات قرنٍ مضى  ..تتوقف عيناها عند نافذة ٍ بعينها فيشرق الوجهُ ثم يَغيم..تخترق ضلفها الخشبيةَ المشرعة و زجاجهَا المشروخ بعين ذاكرة يضنيها كلُ ما فيها.. ترى الفتاةَ التي كانتها منذ أكثرِ من عشرين عاما بجديلتها الطويلة و ابتسامتها الرائقة  و صوتِها الحنون..تراها تسير و كأنها تطير في ممرات طويلة عالية الأسقف.. يتردد صدى همسِها و ضحكاتِها بين جدرانها فتُميت قلوباً و تُحيي قلوب..تجلس بجوار تلك النافذة تحديداً و تسرح خارجها في  سماواتٍ و أراضٍ بعيدة تنتظر خلف خطِ أفقٍٍ بعيد.. أحلامٌ كبيرة تتزاحم و تتدافع داخلَ ذلك الصدر الصغيرفي انتظار لحظة الخروج لعالمٍ شاسعٍٍ واعدٍ للتحققِ و التحقيق . يلتف حولَها الأصدقاء  ربما للمرة الأخيرة في زمن الفرحة ..تغني و يرددون  فيردد المكانُ خلفَهم  لوقتِ طويل.. " فتناكي بخير يا وش الخير.. يا مدرستنا يا حبيبتنا.."

الترام الأزرق العتيق.. يتهادى ببطئه المعهود فيهدهد القلبَ المثقل بالحنين.. ما الذي يُقالُ  سوى الاعتذارَ عن القلب الذي يطلب فجأة ما لا ينال...تتتابع البناياتُ و الشوارع و البيوت فتلاحقها الصور و تملأها الحكايات و  الذكريات.. هنا تعلمت الموسيقى للمرة الأولى ..و هنا بيتُ صديقةِ العمر الماضي ..و هناك بيت صديقة العمر الحالي.. هنا سارت مع حبها الأول و هناك عادت بجُرحها الأول...و على هذه المحطة جلست تبكي وقد غادرت زواجاً لم يكن كالزواج..  في هذا الطريقِ تساقطت الأحلامُ تباعاً في غفلةٍ منها و من الزمن ..و ما تبقى منها تحولَ ببطءٍ لكوابيس تطاردها ..آمالٍ لم تتحقق و انتصاراتٍ لم تعاش و احتمالاتٍ كان من الممكن أن تكون..هل الماضي يمضي حقاً أم يجثُم بظلِه فوق أيامِنا؟ أم أننا نسكن فيه كتلك البيوت التي سكنَّاها  ثم غادرناها يوماً ما و لم نغادره! هل في الزمن النسيان..و ان كان كذلك فلماذا لا ننسى؟ الحقيقة أن الزمنَ يجلو الذاكرةَ و كأنه الماءُ يغمُر الذهبَ يوماً أو ألفَ يوم...و لكنك تجده دائماً في قاع النهر يلمع!

المقهى البني الأنيق.. تتوقف أمامَه مترددة.. تعلم أنها بمجرد أن تدفع البابَ سوف تُغويها رائحةُ القهوة و تجذبها لأعلى ككل المرات السابقة.. ستصعد السُلمَ الخشبيَ الملتوي و تتجه  ناحية َالطاولة  الصغيرة المنزوية في الركن البعيد.. تتأمل الوجوه َو تسرح في تفاصيلها و ما تخفيه خلف الابتسامات و التقطيبات و النظرات الشاردة .. تختلق حكاياتٍ  وتحبكها ثم تنهيها قبل أن تنتهي من فنجان قهوتها وتغادر.. هنا خفق القلب مرة أخرى بعد أن ظنته لن يَفيق من غفوة السنين.. كسره الحضورُ كما كسره من قبلِ الغيابُ فأغلق بابه مجدداً في وجه الفرح و التوقع و الاهتمام  .. تقسو الحياة ثم تحنو ثم تقسومن جديد.. أحيانا تظن أن قسوتها كانت بلا معنى و لا ضرورة و أحياناً ترى أن حظها منها أقلُ قسوة ٍمن الآخرين.. تتابع طريقها في شوارع وسطِ البلد .. تتدقق في التفاصيل المحفورة في الذاكرة للمرة الأخيرة.. البناياتِ الأثرية و الفنادق الأنيقة و الشوارع الواسعة الممتدة لآخر المدى.. الزحام المحبب للقلب و الوجوه الطيبة و المطاعم الشعبية و الباعة الجائلين.. المتاجر الكبيرة بأضوائها التي تغشى العيون و قاعات السنيما القديمة و المطاعم الشهيرة.. باعة الكتب المتلاصقينَ بوجوههم المألوفة و اغوائهم الدائم.. الميدانِ الفسيح و تمثاله الشهير الصامد فوق منصته العالية الناظر دائماً ناحية البحرو كأنما يشير إلى الطريق..لا ينطق الحجرُ لأنه غير البشر معقود اللسان ..لكنه يعرف الحقيقةَ و يحفظُها.. لأنه رأى كل شئٍ و كان شاهدا على ما كان..

صالة الانتظارالبيضاء الواسعة...  لا يتوقف الصوتُ المحايد في المذياعِ الداخلي عن الإعلان عن رحلاتٍ تُقلع و أخرى تعود..تجلس على المقعد الفضي اللامع تحيط بها حقائبُ أودعتها بعضاً من حياتها السابقة..القليلَ من الملابس و الكثيرَ من الكتب..و الكثيرَ و الكثير من الصور..ودّعت الأماكن و استودعتها من لا تضيع عنده الودائع و لكنها حملت أحبابها معها.. في وحشةِ الغربة تستطيع أن ترى أحبابك أكثر لأن في الوقت متسعٌ.. يأتونك حدباً و من كل صوب.. يأتونك فُرادى و على مهلٍ فيسمحون لك أن تتملى في وجوههم ما شئت وإن طال تأملُك.. تسألهم و تجيبهم فتقترب منهم أكثر من أي وقتٍ مضى و لكن تبقى المسافاتُ شاهدة ًعلى غربة المكان و غربتِك فيه.. تتنهد تنهيدةً مسموعة ًو تمسح دمعة ًهاربة ثم تضع سماعاتِ الأذن وترفع الصوتَ ليطغى على باقي الأصوات.." و لا صحبة أحلى من تجلي الذات.. و لا حضن أدفى من ونس في النفس..غاب الصحاب لكن الهوى حاضر..قادر ياخدني لحد عين الشمس..ساب القمر ضيه على بابي..نور لي كل اللي طفاه الأمس..أنا وحدي جايز بس مني كتير..حالمين بعالم فيه قلوب تتحس......."

2 comments:

Unknown said...

تكتب بقلمها عن ذكريات تتوهج في نفسها ، فتثير حنينا إلى ماض عشنا فيه سعادة لا توصف ، سعادة كنا ننهل منها ولا نعلم أنها معين سينضب يوما ما ، ولن يمتلئ من جديد .

تنتقل من مشهد الى آخر ، و تتركك بين المشهدين ، تسترجع ذكرياتك الخاصة ، مشاهدك المتفردة ،في نفس المدينة ، ربما في نفس الشوارع ، وربما في نفس الأماكن ، تتذكر موقفا مع كل كلمة ، تمعن النظر ، تبتعد بعقلك و تفكيرك الى مكان آخر غير الذي تجلس و تقرأ فيه تلك الكلمات ، تتذكر ضحكة علت ، صديقا لم يعد ولا تعلم عنه شيئا ، و آخر تعلم عنه كل شيئ ولم يعد في مقدورك حتى أن تحادثه . تتذكر فرحة ظننت أنها باقية ، وعدا لم يتحقق ، حلما ظل كباقي الأحلام ، ألما ذهب ألمه و لم يعد منه سوى أن تقرأ كلمات كتلك كي تتذكره .

تمضي مع الكلمات و المشاهد ، و تصل بك إلى مشهد الفراق الأخير ، و كأن كل هذه الشجون التي أثارتها بكلماتها و ذكرياتها لم تكفها
وكأن كل الفراقات التي وصفتها و حكت عنها تحتاج إلى فراق أخير ، فراق المسافر التارك لكل شيء ولكنه يحمل معه كل شيء . فراق وصفته بأنه ( آخر كل حاجة ) لتتركك بعد ذلك مع أغنية اختارتها بعناية لما كتبت
تستمع إلى الأغنية ، و تعيد السماع مرات و مرات ، البحر ، الشمس ، الذات ، جرحنا ، شوك ، صبح ، الوحدة صحبة و الصدى راجع ، يرد صوتنا هو هو الرد .
لا تملك إلا أن تنظر لتلك الصورة المرفقة ، ثم تمسك بقلمك ، وتكتب .

dahlia.. said...

Amr Shahin


قد تختلف مشاهدنا و أحلامنا و خيباتنا لكن جمعتنا الأماكن نفسها تحت سماءٍ واحدة و فوق أرضٍ واحدة..جمعنا الفرح و الحزن و خيبة الأمل لأنها مشاعر واحدة..جمعنا وطنٌ واحد..أحببناه جميعاً و خذلنا جميعاً.. كلٌ بمقدار....وكلما كان الخذلان كبيراً صار الرحيلُ أكيداً.. تحمل معك الذكريات و
الأحباب و أهم من هذا كله نفسك تتونس بها..لأنه حقا و صدقا " لا صحبة أحلى من تجلي الذات".. دمت يا عمرو صديقاً عزبزا حتى وان فصل بيننا بحرٌ و ألف سد و سد