Saturday, 18 November 2017

ثم مضى..






العمر قطار أعمى يمضي في طريقه دون توقف..قد يبدو لنا مسرعاً أكثر من اللازم حين يمربالأفراح و السهول الخضراء المتلألئة
بقطرات الندى المتدثرة بشعاعات الشمس الدافئة.. و قد يبدو لنا متباطئاً حين يمر بالخيبات الحتمية و أوجاع القلب التي لا مفر منها و الصحراء الشاسعة الممتدة حتى نهاية الرحلة..و سواء كان ذلك حقيقة أو وهماً كسائر الأوهام, فإن القطار -يقيناً- يصل إلى وجهته  في موعده المحدد دون أدنى تأخير.

..أراد أن يراها مرة واحدة أخيرة.. ليمنحها اعتذاراً يناسبها..اعتذاراً عن ما كان..و حسرةً على ما لم يكن,  يطلب منها صفحاً لا يستحقه و فرصة أخيرة للبوح قد لا ينالها.. يستبدل وداعاً مبتوراً صامتاً  بوداع ٍ يليق بها.. يفيض بدموعٍ لم تذرف بعد و إجابات غير معلنة عن أسئلة ظلت عشرون عاماً عالقة في الفراغ الممتد و المسافات الشاسعة بينهما...أراد أن يخبرها أنه قد أمضى  الرحلة متظاهراً..متظاهراً بالاستمتاع بكل ما يمر به القطار من سهولٍ و مرتفعاتٍ و وديان, عاجزاً عن الشعور ببهجة الألوان و روعة الأشياء.. متظاهراً بالاستماع إلى رفاق الطريق,عاجزاً عن الإنصات أو الفهم..متظاهراً بهدوءٍ لا يشعر به ,كابتاً غضباً لا مبرر له..متظاهراً بحياةٍ لا يحياها و سعادةٍ لم يذق طعمها بعد! أراد أن يخبرها أنه استيقظ ذات صباح شاعراً أن الرحلة ربما قد قاربت على الانتهاء..و أنه قد لا يجد الوقت الكافي و لا الشجاعة الكافية كل الأشياء المؤجلة إن لم يتوقف الآن و يلتفت إلى الوراء!.أراد أن يرى إن كان الزمن أكثر قسوة منه عليها فترك بصمته خطوطاً قاسية فوق الجبين و مناطق غائرة تحت العينين.. أم كان رحيماً بها فاكتفى  بخطوط الفرحة حول الشفتين و العينين ..أراد أن يرى تلك الفتاة التي تركها تطارد أحلاماً بعيدة المنال ببريقٍ في العينين لا ينطفئ  و يقينٍ في القلب لا يتزعزع ..أن يسمع ضحكتها التي لا تشبه باقي الضحكات مرة واحدة أخيرة ثم يمضي إن استطاع!

 أرادت أن تخبره أن الفتاة التي يبحث عنها ما عادت هنا..أنها تركتها هناك حيث تركها تنتظر وعوداً لن توفّى و أحلاماً لن تتحقق و أماناً لن يجيء..استبدلتها صاغرة بفتاةٍ تأخذ كل الأشياء على محمل الجد أكثر مما ينبغي.. تحب أكثر مما ينبغي و تكره أكثر مما ينبغي..تفرح أكثر مما يجب للفرحة أن تكون، فتحزن حزناً أقسى بكثير من المعتاد..تثور ثورة مبالغاً فيها  فتخيب آمالهاأطول من اللازم..لا تخاصم الآخرين بقدر خصامها مع نفسها..تنقدها أشد النقد بينما تنتظر تفسيرا مناسباً من الله عن أسئلة تحملها معها أينما ذهبت...تعتذر من الآخرين على نحو مبالغ فيه و على أشياء قد لا تستحق, غير متوقعة أو آملة في اعتذاراتٍ أكبر في الحياة و لا تكفيها الكلمات.. أرادت أن تخبره أنها تركت تلك الفتاة أيضاً في وقتٍ ما و عند منعطفٍ ما .. و ما صارته الآن يصعب وصفه أو   فهمه..  امرأة بذلت قصارى جهدها لتصبح عادية حد الملل.. فتوقفت أخيراً عن الاندهاش! اعتادت العزلة حتى صارت خواءاً عميقاً دائم الحضور.. أسندت رأسها على زجاج نافذة القطار الذي بات يمضي بسرعة منتظمة رتيبة .. تمر بعينين نصف مغمضتين على المشاهد المتشابهة  خارجه و إن بدت مختلفة لغيرها..تنتظر في صبر نهاية الرحلة ربما استاطعت عندها أن تفهم مغزاها.. ترى وجهها في وجوه الآخرين لأنها كرهت انعكاسه في المرايا..امرأة جمعت كل الأشياء التي أرادت أن تنساها و لا تجرؤ على تذكرها, و الأسئلة التي لا تقوى على طرحها و لا تتحمل أجوبتها, و صور للفتاتين كانتهما يوما و حيوات كان من الممكن أن تحياها فقط لو سلكت سبلاً أخرى..جمعتها في صندوقٍ صغيرٍ محكم الإغلاق, أودعته أشد مناطق العقل إظلاماً..فاستراحت أخيرا!

وقف طويلاً ينتظرها على محطة القطار...يبحث عنها في وجوه المارة و العابرين..يداعب صورةً قديمةً لهما ظلت أعواماً طويلة مخبأة في كتاب..إن اللحظات تتلاشى, و القلوب تقسو, و الأجساد تشيخ, و الأفراح تبهت, و الأحزان تذوي, و العمر يمضي..وتبقى الصور دون أي تغيير وفية لما كناه يوماً إلى الأبد..أفاق على صافرة قطاره تذكره أن عليه مواصلة الرحلة..نظر حوله للمرة الأخيرة....ثم مضى

Thursday, 15 June 2017

غرق




أغمضت عينيها في محاولة يائسة منها أن لا ترى شيئا..
حاولت أن تملأ سمعها بصدى أغاني تحبها..راحت تنقل حواسها الواحدة تلو الأخرى- كما تدربت كثيرا- إلى أماكن بعيدة أكثر قربا و دفئا من  هنا..شاطئ بحر تعشقه في صباح بارد و شتاء عائد بعد انتظار..صوت ضحكات تعلو فوق نداءات النورس العالية للغائبين بأن يعودوا..قرار ثنائي مفاجئ بإلقاء الأحذية و الجوارب جانبا للاستمتاع ببرودة  الرمال الخشنة بين أصابع الأقدام الناعمة..الدافئة! أسرار و أحلام تتناثر ما بين الضحكات المتطايرة فتمزجها الرياح معا ليصل مداها جميعا للسماء المتعطشة للأمنيات.. قطرات المطر الأولى التي لا تعنى لفتاتين في مقتبل الفرحة سوى أن كل الأحلام ممكنة التحقيق ..فتتبادلان نظرة بعينها.. و تهمسان معا "ادعي!" فتسر كل منهما بدعوتها في أذن السماء همسا صامتا و كأن الأخرى لا تعرفها !بم كانت تهمس ؟!......"انتي نمتي؟!"كان هذا همس آخر من مكان آخر..همس رجولي مستنكر متلاحق الأنفاس..هزت رأسها إنكارا و استنكارا.. حاولت أن تأخذ نفسا عميقا منعها منه شعور بالألم راح يجتاح أماكن متفرقة من جسدها..حاولت أن تدفع الألم بعيدا عنها فكبّل يديها بقبضته و تركهما فوق رأسها عاجزتين! أغمضت عينيها وعادت إلى البحر... وحدها تلك المرة..اقتربت بخطواتها العارية من حافة الأمواج المتكسرة ..لامستها فشعرت بجسدها ينتفض سقيعا و بردا..حاولت أن تتراجع للوراء فارتطمت بالفراش الأكثر برودة..شعرت بالبحر يجذبها لأعماقه عنفا و قهرا..يريها وجها آخر من المستحيل أن تحبه..لطمتها الموجة الأولى بقسوة لا تستحقها فشعرت بعالمها يتهاوى كما يحدث كل مرة..حاولت أن تتعلق بأي شيء استعدادا للموجة التالية فلم تجد سواه! اعتصرت قبضتها المبللة عرقا و غرقا . لطمتها الموجة الثانية فشعرت بذرات جسدها تئن ألما حارقا..أغمضت عينيها أكثر علها لا ترى و لا تسمع و لا تتنفس ..باتت اللطمات متتالية متسارعة وأغرق الماء البارد كل شئ..أغرق الأحلام و الأسرار و السماء..أغرق الأغاني و الأماني و الضحكات..أغرق النوارس بعد أن أدركت  أن الغائبين لا يعودون و الذاهبين لا يرجعون فكفّوا عن النداء..أغرق الرمال و ترك ما تبقى منها وحلا يلتصق بكل شيء..أغرق حتى شعور الخوف من الموت يأسا أو غرقا ..ثم ساد هدوء مفاجئ! انتهى كل شيء و توقفت كل الأصوات و كف الهواء عن الحركة حتى داخل صدرها..حاولت أن تحرك أطرافها فلم تستطع..فتحت عينيها فلم ترى سوى نفس الظلام الموجود خلف الأجفان المغلقة..حاولت أن تستمع لدقات قلبها فلم تجدها و لم تجده حيث كان.......
كان الإثبات الوحيد أنها ما زالت على قيد الحياه هو صوت الأنفاس المنتظمة التي راحت تهدأ و تتثاقل و تعلو بجوارها..و دمعة ساخنة وحيدة تنساب ببطء قاتل فوق خدها حتى تصل الى شفتيها فتتوقف هناك و تبرد هي الأخرى في انتظار أن تتلاشى!