Sunday, 16 September 2018

حكايةٌ و ما فيها







..في البدءِ 
حيث العدمُ و اللا شيء.. حيث لا حياة ُو لا موت..لا زمانُ و لا مكان .. لا قديمٌ و لا جديد.. لا صوتٌ و لا صدى.. لا  ذكرى و لا ذاكرة.. لا شيءٌ و لا أحدٌ سواه..وحده  جلّ في علاه
 خلق القلم..أٌمره أن يكتبَ فكتب..كتبَ أقدارَ كلِ شيء.. صغُر أو كبُر... طالَ أو قصُر..بعُدَ أو قرُب..كان ذا شأنٍ أو لم يكن.. فكنا نحن نقطةً لا تُرى في اللوحِ المحفوظ

..ثم
في ظلامٍ داخل ظلامٍ داخل ظلام..نُفخت فينا الروح  فدبت فينا الحياة و كُتبت تفاصيلُ الحكاية..كُتبت الأقدارُ و الأعمار..الأفراح والأتراح..اللقاءُ و الفراق..البداية و النهاية

لكل أمرٍ تحت السماوات وقتٌ معلوم...  يُفتحُ لك البابُ فتخرج وحدك من الظلام إلى النور..من الحيزِ الضيقِ الذي كان يسعك بالكاد إلى فضاءٍ تظنه  رحباً لا حدود له, فتتتنفس ملء الصدر و تضحك ملء القلب و تحلم ملء الكون.. تفتح ذراعيك على اتساعهما لتعانق الحياة و تحتفي بها ... تراها بسيطة  لمنتهى الجمال فتُقبل عليها و تحبها غاية الحب..ثم  تريك وجهاً آخر من وجوهها المتعددة..فتجدها معقدة لمنتهى القبح و تكرهها غاية الكره... تظل تتقلب بين أضدادها حتى تعتادها و تقنع بأن تكون في الوسط بين كل الأشياء .. تظل تريك وجوهها  حتى تعرفها حق معرفتها فلا تكرهها و لا تحبها..تتعلم أن لكل شعورٍ ضده  و تختبره ..و لكل شىء ثمنه و تدفعه...تصبح أكثر حذراً و أقل اندفاعاً..تراقب خطواتك و ما حولك عن كثب فتكتشف أن الفضاء الرحب لم يكن أصلاً لك.. و أنك في الحقيقة تمضي في طريقٍ محدودٍ محدد من بدايته لنهايته..يغمره الضوء أو يشح فيه على حسب الظروف و الأحوال..تركض في أوله و تسابق الأيام لتسبقها و تتخطاها..تركض  حد التعب و الانهاك فتتمهل لتلتقط الأنفاس..لا تدع  لك الأيام الفرصة أو الوقت للتوقف أو العودة إلى الوراء..تقودك خلفها  فتنقاد..يسلمك اليوم إلى الآخر فتستسلم..تسحبك ببطء و حذر و تقرض خيوط عمرك بإصرار سواءٌ شعرت بذلك أو لم تشعر.. تثقلك التساؤلات و يرهقك المسير.. ما الجدوى و ما الغاية؟ هل بإمكاننا أن نحيد عن الطريق المرسوم؟ هل بإمكاننا أن نتجنب الألم؟ هل نستطيع أن نتعلًم الدروس دون أن نمر بالصعب الذي يُحكى و الأصعب الذي يستعصي على الحكي؟  هل يحمل القلبُ في طياته الأجوبة؟ و إن كان كذلك فهل من طريقة تمكننا من أن نشق الصدر و نغسل القلب مما شابه  في الطريق ..فيصفو و ينجلي كما المرآة لنرى فيه المعنى و الهدف و المغزى من وراء الحكاية؟

حكاياتُنا مكتوبةٌ من قبل مجيئنا.. لن نستطيع أن نتخطى صفحةً واحدةً من صفحاتها..علينا أن نقرأَ كل سطرٍ و كل كلمةٍ و كل حرف..نتوقف عند كل نقطةٍ و نلتقط الأنفاس قبل بدايةِ كل فصل... نلتقي بكل شخصٍ قُدر لنا أن نلقاه و نتذوق لذة البدايات و حلاوتها.. و نفارق كل  من كُتب علينا فراقه و نتجرع قسوة النهايات و مرارتها.. المؤكد أننا لن نستمتع بكل تفاصيل الحكاية..بعض الصفحات ستؤلمنا أكثر من غيرها و تجعلنا نبكي طويلاً و بعضها سوف يعلمنا كيف نتجاوز الألم و نتخطى البكاء و نبتسم -بحذرٍ-من جديد..سنقرأ أشياءاً نتمنى لو لم تُكتب أو أننا لم نقرأها.. و سنمر بصفحاتٍ نتمنى أن لا تنتهي و نأبى أن نطويها. و لكننا نواصل لأننا في كل الأحوال علينا أن نقرأَ حتى النهاية .. .. تنطوي الصفحات و تنتهي الحكاية.. تنتهي و قد استنفذت طاقتك و قدرتك على الاستمرارٍ فيها..يُفتح لك الباب فتخرج منها دون أن يشق عليك ذلك أو أن يعِزَِ عليك الرحيل.. تخرج منها  وحدك كما دخلتها وحدك
تختلف الحكايات و تتفاوت ..تضمحل و تتلاشى..و تظل العبر و الدروس باقية
  بين البدايات و النهايات هالاتٌ من نورٍ و بقعٌ من ظلالٍ و ظلام.. بين الفشل و النجاح محاولاتٌ مضنية  و خيباتٌ متتالية و اصرارٌ و مثابرةٌ و عزم.. بين الأوهام و الحقيقة سرابٌ لا يروي الظمأ  أبداً بل يزيده حدة مهما بدا واعداً مترقرقاً أمام الأعين .. بين القلوب و ساكنيها خيوط واهية من حرير.. ينسجها الصبر و الثقة و الاهتمام و يمزقها البعد والقسوة و اللامبالاة.. بين الشباب و الهرم طريقٌ طويلٌ أوله دهشة و  منتصفه اعتياد و آخره ملل.. بين التعب و الراحة مسافاتٌ ممتدة من الرفض و الاستنكار ثم الاذعان و التقبل ثم الرضا بما قُدِر و كُتِب ..




Wednesday, 29 August 2018

آخر كل حاجة






  المبنى الوردي العريق..تدنو منه وتلقي عليه السلام في صمت..تحتويه كاملاً مكمّلاً بعينيها ثم تتأنى فوق تفاصيله ببطء.. زخارفِ الأعمدة البيضاء حائلةِ اللون بفعل الزمن المثابر و نسائم البحر القريب.. البابِ الحديدي الأسودِ المغلق بإحكام على أجمل أيام العمر.. الجدران ِالوردية المنقوش فوقها بأسودٍ لا لبس فيه أسماءاً و تواريخاً و وعود صداقة و حبٍ إلى الأبد لم تتحقق كسابق الوعود..النوافذ ِالشامخة التي يعود تصميمُها لبدايات قرنٍ مضى  ..تتوقف عيناها عند نافذة ٍ بعينها فيشرق الوجهُ ثم يَغيم..تخترق ضلفها الخشبيةَ المشرعة و زجاجهَا المشروخ بعين ذاكرة يضنيها كلُ ما فيها.. ترى الفتاةَ التي كانتها منذ أكثرِ من عشرين عاما بجديلتها الطويلة و ابتسامتها الرائقة  و صوتِها الحنون..تراها تسير و كأنها تطير في ممرات طويلة عالية الأسقف.. يتردد صدى همسِها و ضحكاتِها بين جدرانها فتُميت قلوباً و تُحيي قلوب..تجلس بجوار تلك النافذة تحديداً و تسرح خارجها في  سماواتٍ و أراضٍ بعيدة تنتظر خلف خطِ أفقٍٍ بعيد.. أحلامٌ كبيرة تتزاحم و تتدافع داخلَ ذلك الصدر الصغيرفي انتظار لحظة الخروج لعالمٍ شاسعٍٍ واعدٍ للتحققِ و التحقيق . يلتف حولَها الأصدقاء  ربما للمرة الأخيرة في زمن الفرحة ..تغني و يرددون  فيردد المكانُ خلفَهم  لوقتِ طويل.. " فتناكي بخير يا وش الخير.. يا مدرستنا يا حبيبتنا.."

الترام الأزرق العتيق.. يتهادى ببطئه المعهود فيهدهد القلبَ المثقل بالحنين.. ما الذي يُقالُ  سوى الاعتذارَ عن القلب الذي يطلب فجأة ما لا ينال...تتتابع البناياتُ و الشوارع و البيوت فتلاحقها الصور و تملأها الحكايات و  الذكريات.. هنا تعلمت الموسيقى للمرة الأولى ..و هنا بيتُ صديقةِ العمر الماضي ..و هناك بيت صديقة العمر الحالي.. هنا سارت مع حبها الأول و هناك عادت بجُرحها الأول...و على هذه المحطة جلست تبكي وقد غادرت زواجاً لم يكن كالزواج..  في هذا الطريقِ تساقطت الأحلامُ تباعاً في غفلةٍ منها و من الزمن ..و ما تبقى منها تحولَ ببطءٍ لكوابيس تطاردها ..آمالٍ لم تتحقق و انتصاراتٍ لم تعاش و احتمالاتٍ كان من الممكن أن تكون..هل الماضي يمضي حقاً أم يجثُم بظلِه فوق أيامِنا؟ أم أننا نسكن فيه كتلك البيوت التي سكنَّاها  ثم غادرناها يوماً ما و لم نغادره! هل في الزمن النسيان..و ان كان كذلك فلماذا لا ننسى؟ الحقيقة أن الزمنَ يجلو الذاكرةَ و كأنه الماءُ يغمُر الذهبَ يوماً أو ألفَ يوم...و لكنك تجده دائماً في قاع النهر يلمع!

المقهى البني الأنيق.. تتوقف أمامَه مترددة.. تعلم أنها بمجرد أن تدفع البابَ سوف تُغويها رائحةُ القهوة و تجذبها لأعلى ككل المرات السابقة.. ستصعد السُلمَ الخشبيَ الملتوي و تتجه  ناحية َالطاولة  الصغيرة المنزوية في الركن البعيد.. تتأمل الوجوه َو تسرح في تفاصيلها و ما تخفيه خلف الابتسامات و التقطيبات و النظرات الشاردة .. تختلق حكاياتٍ  وتحبكها ثم تنهيها قبل أن تنتهي من فنجان قهوتها وتغادر.. هنا خفق القلب مرة أخرى بعد أن ظنته لن يَفيق من غفوة السنين.. كسره الحضورُ كما كسره من قبلِ الغيابُ فأغلق بابه مجدداً في وجه الفرح و التوقع و الاهتمام  .. تقسو الحياة ثم تحنو ثم تقسومن جديد.. أحيانا تظن أن قسوتها كانت بلا معنى و لا ضرورة و أحياناً ترى أن حظها منها أقلُ قسوة ٍمن الآخرين.. تتابع طريقها في شوارع وسطِ البلد .. تتدقق في التفاصيل المحفورة في الذاكرة للمرة الأخيرة.. البناياتِ الأثرية و الفنادق الأنيقة و الشوارع الواسعة الممتدة لآخر المدى.. الزحام المحبب للقلب و الوجوه الطيبة و المطاعم الشعبية و الباعة الجائلين.. المتاجر الكبيرة بأضوائها التي تغشى العيون و قاعات السنيما القديمة و المطاعم الشهيرة.. باعة الكتب المتلاصقينَ بوجوههم المألوفة و اغوائهم الدائم.. الميدانِ الفسيح و تمثاله الشهير الصامد فوق منصته العالية الناظر دائماً ناحية البحرو كأنما يشير إلى الطريق..لا ينطق الحجرُ لأنه غير البشر معقود اللسان ..لكنه يعرف الحقيقةَ و يحفظُها.. لأنه رأى كل شئٍ و كان شاهدا على ما كان..

صالة الانتظارالبيضاء الواسعة...  لا يتوقف الصوتُ المحايد في المذياعِ الداخلي عن الإعلان عن رحلاتٍ تُقلع و أخرى تعود..تجلس على المقعد الفضي اللامع تحيط بها حقائبُ أودعتها بعضاً من حياتها السابقة..القليلَ من الملابس و الكثيرَ من الكتب..و الكثيرَ و الكثير من الصور..ودّعت الأماكن و استودعتها من لا تضيع عنده الودائع و لكنها حملت أحبابها معها.. في وحشةِ الغربة تستطيع أن ترى أحبابك أكثر لأن في الوقت متسعٌ.. يأتونك حدباً و من كل صوب.. يأتونك فُرادى و على مهلٍ فيسمحون لك أن تتملى في وجوههم ما شئت وإن طال تأملُك.. تسألهم و تجيبهم فتقترب منهم أكثر من أي وقتٍ مضى و لكن تبقى المسافاتُ شاهدة ًعلى غربة المكان و غربتِك فيه.. تتنهد تنهيدةً مسموعة ًو تمسح دمعة ًهاربة ثم تضع سماعاتِ الأذن وترفع الصوتَ ليطغى على باقي الأصوات.." و لا صحبة أحلى من تجلي الذات.. و لا حضن أدفى من ونس في النفس..غاب الصحاب لكن الهوى حاضر..قادر ياخدني لحد عين الشمس..ساب القمر ضيه على بابي..نور لي كل اللي طفاه الأمس..أنا وحدي جايز بس مني كتير..حالمين بعالم فيه قلوب تتحس......."

Tuesday, 24 April 2018

في الممر


اسمي محمد
 الآن أغلق الباب خلفي وأخرج من البيت..
أسكن في الطابق الأرضي.. في عمارة تتألف من أربعة طوابق.. غادر معظم سكانها بعد أن تحولت المدينة إلى مسرح للقذائف والصواريخ.. أول من رحل كان جارنا في الطابق الرابع.. تهدم بيته في السنة الثانية للثورة بعد أن أصابته قذيفة..  القذائف التي ينزل نصفها على الأرض.. والنصف الآخر تتلقفه البيوت العليا.. لذلك غادرها أصحابها سريعاً.. فلجأوا إلى بيوت أخرى أقرب إلى الأرض أو غادروا المدينة بلا رجعة.
ولأن بيتي في الطابق الأرضي، فقد تحوّل إلى ملجأ .. أسكن فيه أنا وزوجتي وطفلاي.. وزوجة أخي وطفلاها.. وخالتي وبنتها وزوجها وطفلهما.. وفي الأعلى جارتنا السبعينية.. تجلس عندنا معظم الوقت لأن ليس لها أحد غيرنا في المدينة المحاصرة. كل هؤلاء في بيتي. ولأكن صريحاً، لم أعد أطيق هذا الوضع.. لم ألمس زوجتي منذ شهور.. ألتفت يميناً فأجد أطفالاً ويسارا فأجد خالتي وفي الغرفة الأخرى جارتنا. كيف يمكن لهذه الحياة أن تطاق!
لما فُتح الطريق الأسبوع الماضي نحو الشمال رفضوا جميعاً المضي نحو قدرهم.. قالوا إنهم يريدون أن يبقوا هنا ويموتوا هنا.. ما ذنبي أنا؟.. فليناضل كل منهم في بيته! الحقيقة أن معظم الغوطة أصبح على هذا الشكل.. نادراً ما تجد عائلة واحدة تعيش في بيت وحدها.. كل أربع أو خمس عائلات تتكوم في بيت واحد..
البارحة اختلست قبلة من زوجتي.. استرقتها منها كما لو أنه حلم طفولي تحقق.. ولاعبت طفلاي كما لم يحدث منذ شهور.. أحسستهم كبروا أكثر من اللازم.. 
"لماذا يقصفونا و ماذا فعلنا؟" تسألني طفلتي ذات السنين الأربع ,ولدت وكبرت في الحصار.. كنت أستخدم هاتفي والإنترنت الشحيح لأريها كيف يبدو العالم خارج الغوطة.. هذه حلب.. وهذه حمص.. وهذه دمشق.. دمشق التي تبعد عنا نصف ساعة بالسيارة.. لكنها الآن أبعد من أي شيء آخر.

قذيفة على شارعنا تقطع حديثي مع ابنتي.. أضمها إليّ  بقوة وأبكي.. سامحيني لأنك هنا.. والله لا أعلم ماذا فعلنا سوى أننا طالبنا بالحرية ومستقبل أجمل لكم.. لكنه قرر بالتواطئ مع صمت العالم أن يقتلنا.. لا تفهم ابنتي ما أقول.. تبكي ثم تبكي ثم تبكي.. ما زال تخاف القصف..  تعرف أن القصف يأخذ منها أصدقاءها.. ويرفعهم إلى السماء طيوراً من نور..  أضمها وأبكي أكثر.. أريد أن أمنحها بعض الأمل.. لكنني لا أملك قوت يومي من الأمل حتى أعطيها بعضا منه!

ابني لم يكمل عامه الثاني بعد.. يركض بشكل جميل للغاية.. ولديه خدان مثل حبتي خوخ نضجتا للتو.هو و ابنتي و أمهما كل ما تبقى لي في هذه الدنيا.. 
اجتمعنا عند باب البيت وضممت طفلاي بقوة.. كما لو أني خارج من المنزل دون رجعة.. "بابا جبلي معاك شوكولاتة" قالها ابني بصوت يجلب السعادة والفرح.. يرقص قلبي كلما تحدّث. وعدته - كذباً ككل مرة- بأني سأجلبها.. من أين آتي له بالشوكلاتة.. الشوكلاتة عملة نادرة في غوطة محاصرة لا تعرف إلا الدم الأحمر والحزن الأسود.
. نظرت إلى زوجتي.. كان وجهها يفيض تعباً وصبراً وسمرة.. غمازتان من العهد القديم ما زالتا تنبضان حباً وحناناً.. تلجأ عيناي إليها كلما تعبْت.. وتلجأ إليّ كلما تعبَت..  قليلة الشكوى.. قليلة الكلام.. قليلة الأكل.. قليلة النوم.. كثيرة الهدوء.. كثيرة الإيمان وكثيرة اليقين بأن لنا قدراً سنعيشه..  كم تحملتِ من الوجع والقهر والفقر؟ كان بإمكانها الخروج مع أهلها.. لكنها آثرت أن تبقي مع جنوني وولعي بالغوطة حتى الرمق الأخير..
تحمّلت الرعب 
وصبرت على الجوع.. اللهم ارزقني من العمر ما أكرمها فيه.. شددتها إلي وضممتها كما لو أني أودعها.. كان غريباً مني أن أفعل ذلك.. بعد تردد طال سحبت جسدها بعيداً عني في خجل .. نظرت إلي مرة أخيرة وأغلقت الباب.. فُتح الباب مرة أخرى فالتفت.. "بابا لا تنسى الشوكولاتة".. قالها ابني وركض سريعاً خلف أمه دون أن يغلق الباب.. عدت فأغلقت الباب ومضيت.
أعمل في الدفاع المدني.. أعمل في مكافحة الموت.. بيني وبينه ضغينة شديدة.. كلما أسرعت أكثر.. كلما أنقذت روحاً يحاول الموت أن يخطفها.. تسقط قذيفة في الحي الغربي.. عليّ أن أصل إلى هناك في دقائق معدودة.. أن أحدد الهدف سريعاً.. أن أركض إلى البيت وأتحسس الأنفاس.. قد يكون هناك قتلى.. جرحى.. أو أحياء يبحثون عن طريق للخروج وسط الغبار الكثيف في الأجواء.. لكن الأصعب.. هم أولئك المدفونون تحت الأنقاض.. هؤلاء يختنقون بصمت.. قد يكونون تحت أقدامك تماماً.. عليك أن تتخذ قراراً سريعاً بمحاولة إنقاذهم.. أو بالانسحاب من الموقع.. فالطائرة قد تعود لتقصف المكان ذاته.. هذه استراتيجية اعتدنا عليها في القصف الجوي.. يقصف الطيار المرة الأولى.. ثم ينتظر حتى يتجمع الناس وكوادر الدفاع المدني لإنقاذ الضحايا.. ثم يقصف المكان مرة أخرى ليقتل أكبر عدد ممكن.. هل هناك ما هو أقسى من ذلك؟
 نحن محاصرون من الجهات الخمسة.. الشمال والجنوب والشرق والغرب والسماء.. السماء التي غدرت بنا على حين غفلة.. السماء التي أعطت الغوطة مطراً جعلها جنة الأرض هي  ذات السماء التي  فتحت علينا حمم النار والصواريخ والطائرات بأشكالها وأنواعها.
ما إن وصلت إلى المقر الذي أعمل فيه حتى عاد هدير أصوات القذائف.. اشتعلت دوما من جديد.. الصواريخ تسقط في كل مكان.. 

ونداءات الاستغاثة تصل من كل الحارات.. انطلقنا سريعاً تحت تهديد الموتكانت النداءات عبر اللاسلكي لا تتوقف ,
و مع كثافة القصف أنت لا تعرف أيهم أهم.. أو أيهم أكثر احتياجاً.. .. ليس الدم وحده معياراً كافياً لحاجة الإنسان للإسعاف.. فهناك آلاف المصابين وسيارات بعدد أصابع اليد.. عليك أن تقتل إحساسك ثم تقرر من الأولى بالإسعاف!
بعد خمس جولات من الكر والفر بين المستشفى وأماكن القصف أحسست أن جسدي يخذلني.. رميته على حائط المستشفى المليء بدماء الآخرين وغبار الأتربة وبقايا الإسمنت.. المليء بالأوجاع والحزن والخذلان... كدت أغفو لولا انفجارات متتالية دوت من بعيد. كانت قوية للغاية. وبعدها بدأ مسلسل جديد من الموت.

"ابن الكلب ضرب كيماوي".. يركض أحدهم ويصرخ ساندا رجلا يصارع الحياة.. يسعل كما لو أن عاصفة رملية اجتاحت رئتيه.. ركض أحدهم إلى خرطوم ماء.. فتحه عليه بأقوى ما يمكن.. كان يرشه.. في كل منطقة من جسده الأصفر.. والشاب يصارع.. تحركت قدماه ويداه في كل الاتجاهات.. ثم بدأ زبد أبيض يتكوم على فمه.. "لا لا.. لا تموت.. لا تموت"  يصرخ "يا الله.. يا الله".. لكن قدر الشاب كان أسرع.. لفظ نفسه الأخير.. فسقطت أطرافه على الأرض.. ونام إلى الأبد.
مع موت الشاب الأول.. تأكد للجميع أن سلاحاً كيميائياً قُصفت به دوما قبل قليل.. وأن الموت انتشر في الهواء.. في كل مكان.. وبدأت أفواج المختنقين تصل إلى المشفى.. زمراً زمراً.. كلهم تظهر عليهم ذات الأعراض.. اختناق وضيق في التنفس.. توسع العينين كمن رأى ملك الموت ذاته.. ورجفة في الجسم كأن تياراً كهربائياً مسّه.. ورعب.. الموت الذي يأتيك بالصاروخ أنت تعرفه.. لكن الموت الذي يأتيك مع الهواء النقي تجهله.. فتخافه.

يا أيها الموت خذ منا من شئت.. خذنا دفعة واحدة أو فرادى.. خذنا أشلاءاً بصاروخ أو خذ منا عضواً مبتوراً بشظايا برميل.. أو خذنا بكيماوي أو سلاح محرم دولياً.. لكن أخبرنا قبل أن تأخذنا عن السبب
يا وجع الدنيا و قهر الرجال.. يا وجع الأباء وأب يرى طفله يختنق أمامه.. وهو يقفز مكانه يحاول فعل المستحيل ليعيد الأكسجين إليه.. يود لو أن يقتلع رئتيه ويهبهما له.. يود لو يركض به إلى أقصى الأرض ليعود إليه نفسه.. يا وجع الأبناء و ابن عاجز يرى أمه ممددة أمامه ..اجتاح الكيماوي جسدها بينما كانت بانتظار عودته.. نهشها نهشاً قبل أن يفتك بها وترخي جسدها له

 أمشي في الشوارع المهدمة أهذي وأبكي.. أبكي على ما أصابنا .. نحن المضرجون بالألم حتى أخمُصنا ونكابر.. نحن الذين امتلأننا بالحزن حتى فاض.. ونحن الذين أكَلَنا الموت سبع سنوات.. وما زلنا نلعب معه الغميضة.. ننجح في الاختباء منه مرة ونفشل مرات
يا أيها الموت خذ منا من شئت.. خذنا دفعة واحدة أوفرادى.. لكن أخبرنا قبل أن تأخذنا عن السبب.. ما الذي يجعلك تفتك بطفل لم يعرف من الدنيا إلا ثلاث سنوات قضاها كلها في الحصار.. أو امرأة مسكينة أو شاباً في مقتبل العمر.. أخبرهم عن السبب قبل أن تقبضهم.
كان الهدوء يخيّم على حارتنا على غير العادة.. حتى في أسوأ الأيام كان لا بد أن أرى جارنا العجوز يجلس أمام باب بيته.. و بعض الصبية يلعبون الكرة و بالرغم من كل شيء تعلو أصواتهم على صوت القصف  ..
.
وقفت أمام البيت ألتقت أنفاسي ثم فتحت الباب بهدوء ودخلت.. أتقدم بجسدي خطوة ويعود قلبي خطوات.. أحبس أنفاسي.. أفكر أن أعود للبحث عن الشوكولاتة في أي مكان.. صحيح أنني كذبت على طفلي مرات عديدة.. لكنني صدقاً صدقاً أود أن أعود لأجلب له شوكلاتة الآن...  أمشي ببطء داخل المنزل.. الأكيد أنهم ليسوا في الصالة.. في أوقات القصف الكثيف نهرب من الصالة خوفاً من الزجاج والشظايا.. المكان -الذي نظنه- أكثر أمناً في البيت هو الممر الذي يجمع المطبخ والحمام والغرف.. ممر صغير بعرض متر وطول مترين.. نتكوّم فيه كقن دجاج.. أكتافنا إلى بعض ورؤوسنا إلى الأرض.. نتشهد وندعو .. أفكر في كل المرات التي جلست فيها في ذلك الممر.. وأدعو الله أن لا أجدهم في الممر..
 لكنني وجدتهم!
 تجلس زوجتي متربعة..ظهرها إلى الحائط و رأسها يميل على كتفها الأيمن نائمة.. أقول لكم إنها نائمة.. تعبت من شدة التعب و الرعب فنامت.. طفلاي ينامان على بطنهما في حجر أمهما بطريقة غريبة.. تقدمت إليهما و رفعت ابني أولاً... لما نظرت إليه كانت عيناه بيضاوين تماما و فمه مغطى بالزبد.. رفعت ابنتي.. فمها أبيض و عيناها تحدقان إلى السماء.. ضيوفي تكوموا فوق بعضهم ومعهم زوار أخرون..بالممر الصغير و الحمام و عند باب المطبخ
جارتنا السبعينية.. نهش السرطان جسدها عشر سنوات ولم يقدر عليها..سرى الكيماوي في جسدها أربع مرات و في كل مرة تنجو بقدرة الله و رباطة جأش عجيبة..ثم يأتي كيماوي الأسد فيجتاح جسدها مرة أخيرة و يقضي عليها..أظنها لو قامت لضحكت من سخرية القدر ثم عادت لرقدتها المريحة إلى يوم القيامة 
أنظر إلى زوجتي... آه يا أجمل من في الدنيا..يا سيدة نساء الأرض..ٌقومي و ضميني.. لا تتركيني في هذا الظلام الذي لا ينتهي..سأخرج..و الله سأخرج..ألم تكن تلك هي أمنيتك التي لم تخبريني بها قط؟ليُفتح الطريق الآن و سأخرج.. سنذهب إلى  أهلك و تتخلصي من هذا العذاب الدائم..و لتذهب الغوطة إلى الجحيم..أهناك أصلا جحيم أكثر من هذا؟
أظنك شممت الرائحة و لم تستطيعي القيام..ضممت الطفلين لما عرفت انها النهاية و استعددت لرحلتكم الأخيرة إلى السماء.. ثم تذكرتِ.. قبلتنا الأولى..ضحكتنا الأولى .. لمستنا الأولى ..فسالت من عينيك دمعتان ما زلت أرى أثرهما بعد أن جفتا..أم أنك بكيتِ ألماً لمرأى طفليك..و لدك يتشبث بك و الزبد يغطي فمه الصغير يبصقه في وجه عالمٍ قذر ثم يرحل..ثم تتبعه أخته.. ثم أنت في النهاية

يا رب الوجع... و رب الصبر.. و رب الغوطة

اسمي محمد.... و يا ليتني كنت معكم.. و ياليتني أنا الذي استنشقت كل كيماوي دوما 


   القصة حقيقية بكل تفاصيلها و أحداثها و أبطالها..
                              رواها صاحبها محمد عامر
          الذي فقد زوجته علا و ابنته سلمى و ابنه آدم
      و تركني بعدها أسيرة القهر و العجز و قلة الحيلة         
                              في هذا الممر

Thursday, 5 April 2018

وداعاً أيها الغريب



ما زال الطيبون يرحلون.. ما زالت الدنيا تضيق بما رحبت .. لا تتوقف انكسارات هذا الجيل و لا تنتهي أحزانه.. أثقلت كاهله الخيبات فشاب قبل أوانه
شكرا أيها الغريب
انقذتني من أوهام نبيل فاروق بعد ان كاد  يشوه وعيي و أنا على أعتاب المراهقة. انقذني العجوز رفعت اسماعيل الطبيب الطيب 
المتهالك من أدهم صبري ظابط المخابرات الذي لايشق له غبار .  .
شكرا أيها الغريب
 انقذت خيالي من المثالية الزائفة
و رسخت ايماني بقوة الضعف وتفرد العادي . سخريتك المرة ومزاجك الحاد وسؤ حظك في الحب والحياة ووحدتك وأشباحك و عادية ابطالك وضعفهم وقرارتهم المتخبطة والخاطئة .. كل ذلك كان يشبهني كثيرا .. فجعلتني أصدق انه حتي نحن يمكننا ان نكون ابطالا,, في  حكاياتنا الخاصة    ..
علمتني أننا محظوظون أننا لم نمت خجلا من فرط جهلنا و ضعفنا.. وعرفت منك أن ما يرعبهم حقا هو كونك مختلف لا تشبه  تكرارهم أبدا..قرأت يتوبياك فأدركت أنه آن لنا أن نثور قبل فوات الآوان.. و  عندما عدنا من ثورتنا مهزومين احترمت فواجعنا فلم  
تخذلنا..و اتسعت لاختلافاتنا 
 أشرت بقلمك لكتاب غيرك يكملون معنا الرحلة التي بدأناها معك بعد أن كبرنا قليلا و نضجنا كثيرا .. فاكتشفت بفضلك دوستويفسكي وروعة الأدب الروسي ..  وتقبلت أنت بكل تواضع أن تكون مرحلة في حياتناو اكتفيت بأن يعلق على باب قبرك قصاصة ورق  كتب عليها " جعل الشباب يقرأون

ثم جاء موتك الصفحة الخاتمة في روايتك حزينا كأبطالك النبلاء..ثابتاً كأقوالك الخالدة.. فمت عزيزا شريفا ..لم تأكل بعرض قلمك و لا بعت كلمتك لحاكم أحمق..تاركا خلفك اجابة  سؤالٍ حاروا فيه طويلا .. أين يجدوا الشباب الذي طال بحثهم عنه . و لم يروه  إلا  في يناير ذات شتاء .. لم يجدوه عند مقار لجان انتخاباتهم الهزلية..لكن وجدوه وقد ترك المستقبل لهم  و لزعيمهم الأحمق ..تركهم يرقصون كالحمقى في الشوارغ الخالية عليهم.. و  اجتمع حول الموت  عند حافة القبرمودعا عزيزا جديدا و طيباً آخر
وداعاً أيها الغريب .. 
كانت اقامتك قصيرة لكنها كانت رائعة .. عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرا
وداعاً أيها الغريب .. 
كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل.. قطرة من قطرات الندى .. لحناً سمعناه لثوان ثم هززنا رؤوسنا و قلنا أننا توهمناه
وداعاً أيها الغريب..
لكن كل شيء ينتهي




و لقد آمنتُ مُؤخراً أني كبرت بما فيه الكفاية لأن أفلت كل الآيادي التي لم تشد على يدي 
... و لأن أمضي دون أن أعبأ لما يُخلِفُه الماضي 


يوم نموت سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا علي الرمال ..
 بعدما يفني النسيم، تري من يخبر الأبدية أننا مشينا ها هنا 
مرة في فجر الزمان؟
أحمد خالد توفيق






Thursday, 15 March 2018

و يبقى الأثر







بسم الله الرحمن الرحيم
إنا لله وإنا إليه راجعون
حبيبي الغالي مضى اسبوع يا حبيبي على رحيلك
مضى اسبوع يا حبيبي على الفراق
مضى اسبوع يا غالي وانت بعيد عني 
مضى اسبوع  وشريط حياتك كله يمر أمامي ليلا ونهار
مضى اسبوع يا قلبي وأنا أسمع وأقرأ كل ما يُكتب عنك من أصدقائك واخوانك وأحبابك
مضى اسبوع  وكل الناس تدعو لك الغريب قبل القريب
والحمد لله راضين بقضاء الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الحمد لله راضين بقضاء الله ومؤمنين بأنك في الأفضل والأحسن وكيف لا وأنت بجوار الرحمن الرحيم
وكيف لا وأنت الذي طلبت من الله سبحانه وتعالى أن يرحمك والله سميع وعليم بك
فرحمك يا حبيبي من آلام مرضك التي كنت بها صابراً
ورحمك يا حبيبي من آلام الدنيا التي كنت لها مكافحاً
ورحمك يا حبيبي بزوجة مخلصة أصيلة حنونة كانت لك سنداً بكل معنى الحب والحنان والعطاء
ورحمك يا حبيبي بعدد المصلين الذين صلوا عليك
ورحمك يا حبيبي بعدد أحبائك الذين دعوا لك
ورحمك ياحبيبي بأصدقائك المخلصين الذين لم نجد لهم مثيل
رحمك وسيرحمك ان شاء الله دائما برضا والديك وإخوتك وزوجتك عليك
رحمك يا حبيبي بصلة الرحم الجميلة العطرة مع  كل الأهل
رحمك ورحمني ياحبيبي وربط على قلبي بأصدقائي وبناتي الذين أعانوني على الصبر والثبات وكانوا يدعون لك بظهر الغيب
فهنيئاً لك يا قلبي مكانك الذي أنت فيه والذي أدعوا ربي ليلاً ونهاراً أن يكون روضة من رياض الجنة بإذن الله تعالى
وأدعوا ربي الرحمن الرحيم أن تكون مِن الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولٰئك رفيقاً
اللهم آمين
وإلي لقاء قريب إن شاء الله

أمك  المحبة دائما



بعض الخطوب تكون أقسى من غيرها..تملأنا جزعا و حزنا و ألما.. و لكنها تعلمنا دروسا قد لا ننساها ما دام في العمر بقية.
تعلمنا أن الذكرى الطيبة تبقى..و أن الابتسامة تترك أثرها الذي لا يزول في القلوب حتى بعد أن تفترق الوجوه ..أن الضحكات النابعة من القلب تميز بشرا بعينهم عن غيرهم فيظلوا حاضرين دائما مع صدى ضحكاتهم حتى بعد رحيلهم. . أن الحب هو المغزى الحقيقي لرحلتنا على الأرض و أن الحكماء هم من أحاطوا أنفسهم به عطاءا و أخذا.. أن العمل الصالح يمكث في الأرض حتى بعد أن نصير بعضا من ترابها..و أن ما دون ذلك زبد يذهب جفاء.
تعلمنا أن الابن نعمة..و الأهل نعمة..و الزوج المحب نعمة..و الصديق الصالح نعمة و أن الرضا نعمة..و أن ابتلاء "الشكر " على النعم أيسر ألف ألف مرة من ابتلاء "الصبر" على المحن...فلك الحمد و الشكر يا الله حتى ترضى.
تعلمنا أن اللقاء بموعد و الفراق بموعد..و بينهما زمن لا يعرف مقداره سوى من قدر الأقدار. . فلا تأمنوا للزمن..و أخبروا الأحبة كل يوم انكم تحبونهم..و اطلبوا السماح ممن قست قلوبكم عليهم ..قربوا المسافات و قبلوا الأبناء و الأباء و الامهات و احتضنوا كل عزيز و غال لأن الحسرة على ضياع الفرص تسقط حجرا في القلب و تترك غصة في الحلق لا يزولان.
تعلمنا أن الطيبين لا يبقون طويلا.. لأن الله قد أعد لهم ما يليق بطيبتهم..و أن الأثر الذي نتركه في حياة الأخرين لا علاقة له بطول الوقت أو قصره.. أن النهايات هي الأهم و هي التي يعول عليها..لأن نهاياتنا في هذه الحياة تشبه كثيرا بداياتنا في حياة أخرى خير و أبقى من تلك ..فأحسن اللهم خاتمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لهشام و ارحمه و ارفعه عندك درجات.. و اربط على قلب أهله و ضمد جرحهم و اجبر كسرهم يا رب العالمين.

Saturday, 10 March 2018

و يبقى الأثر




شيببتنا الدنيا قبل أواننا فصرنا نواري شبابنا التراب.. علمتنا الدنيا حكماً لا يدركها سوى من قارب على نهاية الرحلة .. فتعلمنا أن وجود المحب في حياة المحبوب نعمة تستحق الثناء و أن لا  يكون ذلك الوجود أبدا من المسلمات.. فتذكرنا أن نخبر الأحباء كل يوم أنَا نحبهم قبل أن تأخذهم أقدارهم منا دون رجعة.. أخبرنا الشيوخ أنهم أقرب منا للمرض و للموت إلا أن الحياة علمتنا أن كلنا راحلون ..قصر الوقت أم طال.. و سيبقى الأثر

عرفت هشام - رحمه الله- منذ 10 أعوام قبل أن أراه.. عرفته من حكايات والدته عنه هو و أخويه بارك الله لها فيهما..
عرفته لأنها كانت تكثر الحديث عنه لكثرة مواقفه الضاحكة.
عرفته ضحوكا حنونا على الاطفال و الحيوانات الاليفة..مربيا لها باستمرار في منزلهم.. اذكر منها العصافير (التي لم يكونوا يستطيعون النوم من صوتها و كان يدخلها إلى حجرته في الشتاء خوفاً عليها من البرد و المطر ..و العصفور الذي أحبه أكثر من غيره فتركه طليقا خارج القفص بعد أن احكم اغلاق النوافذ ) و السحلية و السنجاب و الببغاء( الذي اشتراه صغيرا لا يعرف الكلام و حاول طويلا ان يعلمه الكلام دون جدوى  )و الثعبان الذي ذهبت والدته يوما لتطعمه فلم تجده!! و بحثت في كل مكان في البيت عنه دون جدوى  )
عرفته طاهيا مبتكرا.. يضيف لمساته الخاصة على الطعام، ويعد اطعمة غريبة كنت احرص دائما على معرفة وصفاتها.. فتخبرني والدته ضاحكة " والله ما اعرف يا بنتي عملها ازاي ".
عرفته محبا لوالديه بارا بهما.. اخا و صديقا لأخوته و اصدقاءه.. صموتا قليل الشكوى ان لم يكن عديمها.
ثم التقيته شخصيا عدة مرات و ما علق بذاكرتي دائما هي ابتسامته التي لا تغيب عن وجهه.
عرفته في مرضه صبورا حمولا راضيا بقضاء الله محبا للحياة مقبلا عليها.
عرفته محبوبا من المئات بل ربما الآلاف بعد وفاته ..رأيت المئات يصلون في جنازته و لا يسعهم الحزن و لا المكان.. يشهقون و ينتحبون في صمت قدر الإمكان و لا يستطيعون كتم البكاء وقت الدعاء للميت الذي طال و مع ذلك لم يكف الأدعية التى امتلئت بها الصدور...ثم سخر الله له صديقا مخلصا  ادمى القلوب و أبكى العيون بدعائه الصادق على قبره.. شابا في مقتبل العمر يدعو لمثله و يؤمن خلفه الشيوخ و العجائز و أمثاله من الشباب .. رأيت عشرات الوجوه تبكي في صدق و تحتضن والديه بشدة.. رأيت جميع الأعمار و الأطياف بجنازته و عزائه...
عرفت للمرة الأولى معنى حسن الخاتمة -بإذن الله- التي لا يهبها الله الا لمن أحبهم و اصطفاهم..فطهرك و رفعك درجات بمرضك و صبرك عليه..ثم ألان لك قلوبا لم تعرفك فترحمت عليك بظاهر الغيب و سخر لك من يدعو و يستغفر لك و يخرج الصدقات و يعتمر باسمك... فهنيئا لك يا هشام بإذن 

الله.

عرفت والدته اعواما طويلة ..عرفتها حامدة ذاكرة لله صابرة على المحن و الابتلائات..لم أسمع منها أبدا سوى " الحمد لله".. في مرضها و في محنة الابن الأكبر و مرض الابن الأوسط و مرض الزوج ثم فراق فلذة الكبد و أعز الأحباب ..كل هذا لم يزدها إلا حمدا!
أشهد الله اني احبها و احب هؤلاء الناس في الله و أتمنى عليه أن يرفعني لدرجاتهم في الجنة ويشفع لي بحبي لهم...حين تزول الأرض و السماء و  
تنتهي الدنيا بكل شقائها  و زيفها..و لا يبقى سوى وجهه الكريم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ 

نسألكم الفاتحة و الدعاء لروح 
د/ هشام عاطف شاهين

Thursday, 4 January 2018

تعلمت في عام







تعلمت انك أثناء سيرك في الحياة، سوف تتخلّى عن أحلام، و تفقد أشخاصاً ظننتهم غير قابلين للفقد ..أن قلبك لن يسلَم مهما آويته في رُكن بعيد. .و روحك بالتأكيد ستُندب و تُثقل  بالهموم.. أن من ذهب بالأمس على الأغلب لن يعود غداً.
لأن الأشخاص التاركين خلفهم ألما بالقلوب، المنثورين في ذرات الهواء هباءاً و غثاءاً.. لا يستحقّونك بالأساس، أو ربما أنت من لا تستحق. لا أحد يستحق العائدين بعد غيبة، بل الباقين دائماً بالجوار رغم كل خطأ و كل خيبة.
الممسكين بيدك مع كل بكاء..العارفين أن بؤس العالم كله قد يذيبه عناق و دعاء...تعلمت أن لكل رواية  رواية أخرى، وسيميل قلبك  حتماً لواحدة وإن كانت بلا سَنَد.
تعلمت أن  لا وجود لحب مثالي، ولا أبطال خارقين.. لأن الأبطال على مسرح الدنيا هم أنا وانت، ونحنُ لا نعرف شيئاً عن المثالية!
و ان  البدايات المبهجة و  دقات القلب المتسارعة و  الخطوات المتهورة و الاشعار الحزينة..أشياء لابد من المرور عليها..و لكن ان اطلت الوقوف عندها تحطمت بك جسورها..
تعلمت أن الحياة، لا تَهب.. بل تُقايض. لا تُعطي شيئاً بلا مقابل، لا بد من تضحية يعقبها شكرٌ عل الدرس المكتسب
أن الدنيا لا تميل إلا لمن ترفّع ونأى.
أن العين الغاضّة طرفها عن نِعَم الناس، التي فقدتها.. مُمتلئة وراضية. وأن القلب المُشبّع بحب الله، في سَكَن. صَنع بينه وبين قسوة الدنيا حجاباً، لا يطوله منه إلا إحسانها.
تعلمت اننا كائنات على تعقيدها، تحوي بين ضلوعها أرواح ان استطعنا الوصول إليها ارتحنا بعد طول عناء،..و أنني على طريق الوصول إليها أسير

أن جُرحنا المُلتئم، وضماد قلوبنا سيوخز أحياناً، ويذكِّرنا دوماً بما كان..لكننّا مكتملون بآثار ندوبنا التي صنعت منا ما نحن عليه. .
.
تعلمت أن التعاهُد على البوح المُطلَق مهما زاد القُرب، إثم..فإن بعض الحكايا نصيبها من البوح أن لا تُحكى

تعلمت في هذا العام وكل عام
أن النجاة...كل النجاة في سلامة قلبك من الدنيا .. وأن قدْر الحياة لا يسعها إلا أن تكون محطة عبور، لانت أو عُسِّرت".
"وأن السَكَينة سعادة كل الدنيا
تعلمت أن الفرح بما جاء بعد غياب و الحزن على ما مضى  بعد بقاء سواء..لأن كلنا عابري سبيل، تلاقينا اليوم على عَجَل، وغداً نجتمع في دار بقاء.