أغمضت عينيها في محاولة يائسة منها أن لا ترى شيئا..
حاولت أن تملأ سمعها بصدى أغاني تحبها..راحت تنقل حواسها الواحدة تلو الأخرى- كما تدربت كثيرا- إلى أماكن بعيدة أكثر قربا و دفئا من هنا..شاطئ بحر تعشقه في صباح بارد و شتاء عائد بعد انتظار..صوت ضحكات تعلو فوق نداءات النورس العالية للغائبين بأن يعودوا..قرار ثنائي مفاجئ بإلقاء الأحذية و الجوارب جانبا للاستمتاع ببرودة الرمال الخشنة بين أصابع الأقدام الناعمة..الدافئة! أسرار و أحلام تتناثر ما بين الضحكات المتطايرة فتمزجها الرياح معا ليصل مداها جميعا للسماء المتعطشة للأمنيات.. قطرات المطر الأولى التي لا تعنى لفتاتين في مقتبل الفرحة سوى أن كل الأحلام ممكنة التحقيق ..فتتبادلان نظرة بعينها.. و تهمسان معا "ادعي!" فتسر كل منهما بدعوتها في أذن السماء همسا صامتا و كأن الأخرى لا تعرفها !بم كانت تهمس ؟!......"انتي نمتي؟!"كان هذا همس آخر من مكان آخر..همس رجولي مستنكر متلاحق الأنفاس..هزت رأسها إنكارا و استنكارا.. حاولت أن تأخذ نفسا عميقا منعها منه شعور بالألم راح يجتاح أماكن متفرقة من جسدها..حاولت أن تدفع الألم بعيدا عنها فكبّل يديها بقبضته و تركهما فوق رأسها عاجزتين! أغمضت عينيها وعادت إلى البحر... وحدها تلك المرة..اقتربت بخطواتها العارية من حافة الأمواج المتكسرة ..لامستها فشعرت بجسدها ينتفض سقيعا و بردا..حاولت أن تتراجع للوراء فارتطمت بالفراش الأكثر برودة..شعرت بالبحر يجذبها لأعماقه عنفا و قهرا..يريها وجها آخر من المستحيل أن تحبه..لطمتها الموجة الأولى بقسوة لا تستحقها فشعرت بعالمها يتهاوى كما يحدث كل مرة..حاولت أن تتعلق بأي شيء استعدادا للموجة التالية فلم تجد سواه! اعتصرت قبضتها المبللة عرقا و غرقا . لطمتها الموجة الثانية فشعرت بذرات جسدها تئن ألما حارقا..أغمضت عينيها أكثر علها لا ترى و لا تسمع و لا تتنفس ..باتت اللطمات متتالية متسارعة وأغرق الماء البارد كل شئ..أغرق الأحلام و الأسرار و السماء..أغرق الأغاني و الأماني و الضحكات..أغرق النوارس بعد أن أدركت أن الغائبين لا يعودون و الذاهبين لا يرجعون فكفّوا عن النداء..أغرق الرمال و ترك ما تبقى منها وحلا يلتصق بكل شيء..أغرق حتى شعور الخوف من الموت يأسا أو غرقا ..ثم ساد هدوء مفاجئ! انتهى كل شيء و توقفت كل الأصوات و كف الهواء عن الحركة حتى داخل صدرها..حاولت أن تحرك أطرافها فلم تستطع..فتحت عينيها فلم ترى سوى نفس الظلام الموجود خلف الأجفان المغلقة..حاولت أن تستمع لدقات قلبها فلم تجدها و لم تجده حيث كان.......
كان الإثبات الوحيد أنها ما زالت على قيد الحياه هو صوت الأنفاس المنتظمة التي راحت تهدأ و تتثاقل و تعلو بجوارها..و دمعة ساخنة وحيدة تنساب ببطء قاتل فوق خدها حتى تصل الى شفتيها فتتوقف هناك و تبرد هي الأخرى في انتظار أن تتلاشى!