إلى كل أم أعطت و ضحت..إلى كل أم تنتظر ابناً غائباً, أو حاضراً غائباً..إلى كل أم لم تعد تنتظر شهيداً و تفتقد أيام انتظاره!
تركت جسدها -الذي أنهكه المرض-ممدداً فوق طاولة العمليات الباردة..و جالت بعينيها في الغرفة المخيفة..أغمضت عينيها..
غرفة مشابهة في زمنٍ بعيد..طاولة عملياتٍ دافئةٍ..أو ربما جسدها المتصببُ عرقاً أقرضها بعضاً من لهفته للدفء القادم بعد طول انتظار..موجةُ ألمٍ -لم تعرف لها شبيهاً في عمرها الخالي من الهموم -تجتاح جسدها فتشطره شطرين..ثم تنحصر فتعيده كاملاً مفككاً ,استعداداً للموجة التالية..تتلاحق أنفاسها القصيرة لتكتم صرخاتٍ تأبى أن تصل إلى من يسكن أحشائها -و يحاول جاهداً أن يغادرها- فتخيفه..تستقبل الموجة الأخيرة بشوقٍ جارف..و حين تمر أخيراً..تضيعُ تنهيدتها الخافتة في صوت البكاء المحبب..تختلط دموع الفرحةِ بدموع الألم حين تستقبله هشاً مذعوراً بين ذراعيها ,فتضمه برفق و تستنشق رائحته المميزة للمرة الأولي..فيهدأ كل شيء!
فتحت عينيها..طاولةُ أدواتٍ مغطاةٌ بملائةٍ شاحبةِ البياض تراصت فوقها ألاتٌ معدنيةٌ لامعة..أغمضت عينيها..
مطبخها الدافيء في صباح بعيد تتخلله شعاعات الشمس المتسللة من النافذة المشرعة..ملعقتها وشوكتها الخشبيتان في مبارزة ضاحكة مع صغيرها تنتهي بقبلة كبيرة فوق أنفه المغطى بذرات الدقيق المبعثرة في كل مكان..سعادةٌ خالصة تمتزج برائحة القهوة و الفطائر الساخنة!
فتحت عينيها..شاشة مراقبة العمليات الحيوية تتصل بجسدها بأسلاكٍ دقيقةٍ,و أرقامٌ لا تفهم معناها تظهر فوق الشاشةِ السوداء..أغمضت عينيها ..
غرفة المعيشة في ليلةٍ باردة..و شاشة التلفاز تعرض مشاهد توقفت عن متابعتها, تحاول جاهدة أن تتفهم قرار زوجها الحكيم بالسفر و أسبابه المنطقية!
فتحت عينيها..جهاز التخدير بأنابيبه و أجزائه الدقيقة, والرائحة الكريهة المحيطة به..أغمضت عينيها..
العطر الرجولي الهادئ الممتزج بالرائحة المميزة لولدها تملأ أنفها..تأخذ أنفاساً عميقة حتى تتشبع رئتيها به..و تحاول عبثاً أن تبقيها..علّه يبقى! تحتويها ذراعاه في حضنٍ يفيض اعتذاراً و خجلاّ..فتربِّت على كتفه تفهماً و تشجيعاً..تراقبه يبتعد..و قد انحنت كتفاه تحت ثقل حقائبه..و انحنى رأسه تحت ثقل همومه..تقف في المكان ذاته الذي وقفت فيه منذ أعوام بعيدة توقفت عن عدّها لتودع غائباً آخراختار الرحيل لنفس الأسباب المنطقية!
فتحت عينيها .. لوحة الصور الشعاعية المعلقة على الجدارالمقابل لطاولة العمليات..أغمضت عينيها..
لوحة كبيرة ذات اطارٍ خشبيٍ مزخرف تملأها صور صغيرة متفرقة معلقة على الجدار المقابل لسريرها
صورة زفافٍ قديمة بلا ألوان..صورة زفافٍ أخرى تنطق ألوانها بفرحة ولدها و عروسه..صورة طفلٍ رضيع يبكي خوفاً من مجهولٍ لا يعرفه!
صورٌ كثيرة لطفلين يضحكان من القلب فتكاد ضحكاتهما تقفز من فوق الجدار لتملأ بصداها صمت الغرفة القاتل!
صورة عائلية تجلس في منتصفها..و قد احاطت بذراعيها حفيديها..و يقف خلفها ولدها و زوجته.
تقف كل مساء أمام تلك الصورة تحديدا..تُمرر أصابعها المرتعشة فوق وجوهها الصغيرة فتمرر الوجوه الباسمة إليها قليلاً من البهجة..و كثيراً من الدفء... و مزيداً من الوحدة !
فتحت عينيها..وجوهٌ مخبأة خلف أقنعةٍ زرقاء تحيط بها..تبحث في العيون عن عينين بعينيهما..ولا تجدهما!
صوتٌ يأتي من أحدهم يخبرها أن لا جدوى من الانتظار..لأن رحلته قد أُلغيت في اللحظة الأخيرة..
تشعر بالمخدر البارد يسري أخيراً في عروقها..تثّبت عينيها على دائرة الضوء الساطع - حد الألم _ المتدلية من سقف الغرفة.
لا جدوى من الانتظار؟! لقد أضاعت العمر انتظاراً..تنتظر غائبٍ..ثم تنتظر غائبَين..ثم تنتظر غائبِين.. و حين يطول الانتظار يفقد معناه و يخبو ألمه..و يصبح فقط نمط حياة.. فاذا كان انتظار الساعات و الأيام ناراً حارقة..فإن انتظار الشهورِ و الأعوامِ جليدٌ يكسو كلَ شيء! يخبو تحرّق الساعات و تحركها في جمود الأعوام و تشابهها..فيصبح العمرُ كلهُ يوماً واحداً طويلاً لا ينتهي إلا بمجيء من لا يجيء.
لا جدوى من الانتظار! تراقصت الأضواء الساطعة خلف دمعتي حسرة تأبيان التحرر من أسرهما
الأصوات من حولها تبتعد تدريجياً..و أصواتٌ مألوفة و ضحكات تتداخل مع صوت احتكاك عجلات الطائرة بممر هبوط..و صوت امرأة في المذياع الداخلي تعلن عن قيام رحلة أخرى..
لا جدوى من الانتظار! أغمضت عينيها على الدمعتين..
الغائبون قد يمرون من هنا..و لكنهم أبداً لا يرجعون!