اسمي
محمد
الآن أغلق الباب خلفي
وأخرج من البيت..
أسكن في الطابق الأرضي..
في عمارة تتألف من أربعة طوابق.. غادر معظم سكانها بعد أن تحولت المدينة إلى مسرح
للقذائف والصواريخ.. أول من رحل كان جارنا في الطابق الرابع.. تهدم بيته في السنة
الثانية للثورة بعد أن أصابته قذيفة.. القذائف التي ينزل نصفها على الأرض.. والنصف
الآخر تتلقفه البيوت العليا.. لذلك غادرها أصحابها سريعاً.. فلجأوا إلى بيوت أخرى
أقرب إلى الأرض أو غادروا المدينة بلا رجعة.
ولأن بيتي في الطابق
الأرضي، فقد تحوّل إلى ملجأ .. أسكن فيه أنا وزوجتي وطفلاي.. وزوجة أخي وطفلاها..
وخالتي وبنتها وزوجها وطفلهما.. وفي الأعلى جارتنا السبعينية.. تجلس عندنا معظم
الوقت لأن ليس لها أحد غيرنا في المدينة المحاصرة. كل هؤلاء في بيتي. ولأكن
صريحاً، لم أعد أطيق هذا الوضع.. لم ألمس زوجتي منذ شهور.. ألتفت يميناً فأجد
أطفالاً ويسارا فأجد خالتي وفي الغرفة الأخرى جارتنا. كيف يمكن لهذه الحياة أن
تطاق!
لما فُتح الطريق الأسبوع
الماضي نحو الشمال رفضوا جميعاً المضي نحو قدرهم.. قالوا إنهم يريدون أن يبقوا هنا
ويموتوا هنا.. ما ذنبي أنا؟.. فليناضل كل منهم في بيته! الحقيقة أن معظم الغوطة
أصبح على هذا الشكل.. نادراً ما تجد عائلة واحدة تعيش في بيت وحدها.. كل أربع أو
خمس عائلات تتكوم في بيت واحد..
البارحة اختلست قبلة من
زوجتي.. استرقتها منها كما لو أنه حلم طفولي تحقق.. ولاعبت طفلاي كما لم يحدث منذ
شهور.. أحسستهم كبروا أكثر من اللازم..
"لماذا يقصفونا و ماذا
فعلنا؟" تسألني طفلتي ذات السنين الأربع ,ولدت وكبرت في الحصار.. كنت أستخدم
هاتفي والإنترنت الشحيح لأريها كيف يبدو العالم خارج الغوطة.. هذه حلب.. وهذه
حمص.. وهذه دمشق.. دمشق التي تبعد عنا نصف ساعة بالسيارة.. لكنها الآن أبعد من أي
شيء آخر..
قذيفة على شارعنا تقطع
حديثي مع ابنتي.. أضمها إليّ بقوة وأبكي.. سامحيني لأنك هنا.. والله لا أعلم
ماذا فعلنا سوى أننا طالبنا بالحرية ومستقبل أجمل لكم.. لكنه قرر بالتواطئ مع صمت
العالم أن يقتلنا.. لا تفهم ابنتي ما أقول.. تبكي ثم تبكي ثم تبكي.. ما زال تخاف
القصف.. تعرف أن القصف يأخذ منها أصدقاءها.. ويرفعهم إلى السماء طيوراً
من نور.. أضمها وأبكي أكثر.. أريد أن أمنحها بعض الأمل.. لكنني لا أملك قوت
يومي من الأمل حتى أعطيها بعضا منه!
ابني لم يكمل عامه الثاني
بعد.. يركض بشكل جميل للغاية.. ولديه خدان مثل حبتي خوخ نضجتا للتو.هو و ابنتي و
أمهما كل ما تبقى لي في هذه الدنيا..
اجتمعنا عند باب البيت
وضممت طفلاي بقوة.. كما لو أني خارج من المنزل دون رجعة.. "بابا جبلي معاك
شوكولاتة" قالها ابني بصوت يجلب السعادة والفرح.. يرقص قلبي كلما تحدّث.
وعدته - كذباً ككل مرة- بأني سأجلبها.. من أين آتي له بالشوكلاتة.. الشوكلاتة عملة
نادرة في غوطة محاصرة لا تعرف إلا الدم الأحمر والحزن الأسود.
. نظرت
إلى زوجتي.. كان وجهها يفيض تعباً وصبراً وسمرة.. غمازتان من العهد القديم ما زالتا
تنبضان حباً وحناناً.. تلجأ عيناي إليها كلما تعبْت.. وتلجأ إليّ كلما
تعبَت.. قليلة الشكوى.. قليلة الكلام.. قليلة الأكل.. قليلة النوم.. كثيرة
الهدوء.. كثيرة الإيمان وكثيرة اليقين بأن لنا قدراً سنعيشه.. كم تحملتِ من
الوجع والقهر والفقر؟ كان بإمكانها الخروج مع أهلها.. لكنها آثرت أن تبقي مع جنوني
وولعي بالغوطة حتى الرمق الأخير..
تحمّلت الرعب
وصبرت على الجوع.. اللهم ارزقني من العمر ما أكرمها فيه.. شددتها إلي وضممتها كما
لو أني أودعها.. كان غريباً مني أن أفعل ذلك.. بعد تردد طال سحبت جسدها بعيداً عني
في خجل .. نظرت إلي مرة أخيرة وأغلقت الباب.. فُتح الباب مرة أخرى فالتفت..
"بابا لا تنسى الشوكولاتة".. قالها ابني وركض سريعاً خلف أمه دون أن
يغلق الباب.. عدت فأغلقت الباب ومضيت.
أعمل في الدفاع المدني..
أعمل في مكافحة الموت.. بيني وبينه ضغينة شديدة.. كلما أسرعت أكثر.. كلما أنقذت
روحاً يحاول الموت أن يخطفها.. تسقط قذيفة في الحي الغربي.. عليّ أن أصل إلى هناك
في دقائق معدودة.. أن أحدد الهدف سريعاً.. أن أركض إلى البيت وأتحسس الأنفاس.. قد
يكون هناك قتلى.. جرحى.. أو أحياء يبحثون عن طريق للخروج وسط الغبار الكثيف في
الأجواء.. لكن الأصعب.. هم أولئك المدفونون تحت الأنقاض.. هؤلاء يختنقون بصمت.. قد
يكونون تحت أقدامك تماماً.. عليك أن تتخذ قراراً سريعاً بمحاولة إنقاذهم.. أو
بالانسحاب من الموقع.. فالطائرة قد تعود لتقصف المكان ذاته.. هذه استراتيجية
اعتدنا عليها في القصف الجوي.. يقصف الطيار المرة الأولى.. ثم ينتظر حتى يتجمع
الناس وكوادر الدفاع المدني لإنقاذ الضحايا.. ثم يقصف المكان مرة أخرى ليقتل أكبر
عدد ممكن.. هل هناك ما هو أقسى من ذلك؟
نحن محاصرون من الجهات
الخمسة.. الشمال والجنوب والشرق والغرب والسماء.. السماء التي غدرت بنا على حين
غفلة.. السماء التي أعطت الغوطة مطراً جعلها جنة الأرض هي ذات السماء التي فتحت
علينا حمم النار والصواريخ والطائرات بأشكالها وأنواعها.
ما إن وصلت إلى المقر
الذي أعمل فيه حتى عاد هدير أصوات القذائف.. اشتعلت دوما من جديد.. الصواريخ تسقط
في كل مكان..
ونداءات الاستغاثة تصل من كل الحارات.. انطلقنا سريعاً تحت تهديد
الموتكانت النداءات عبر
اللاسلكي لا تتوقف ,
و مع كثافة القصف أنت لا تعرف أيهم أهم.. أو أيهم أكثر
احتياجاً.. .. ليس الدم وحده معياراً كافياً لحاجة الإنسان للإسعاف.. فهناك آلاف
المصابين وسيارات بعدد أصابع اليد.. عليك أن تقتل إحساسك ثم تقرر من الأولى
بالإسعاف!
بعد خمس جولات من الكر
والفر بين المستشفى وأماكن القصف أحسست أن جسدي يخذلني.. رميته على حائط المستشفى
المليء بدماء الآخرين وغبار الأتربة وبقايا الإسمنت.. المليء بالأوجاع والحزن
والخذلان... كدت أغفو لولا انفجارات متتالية دوت من بعيد. كانت قوية للغاية.
وبعدها بدأ مسلسل جديد من الموت.
"ابن الكلب ضرب كيماوي".. يركض أحدهم ويصرخ ساندا رجلا يصارع الحياة.. يسعل كما
لو أن عاصفة رملية اجتاحت رئتيه.. ركض أحدهم إلى خرطوم ماء.. فتحه عليه بأقوى ما
يمكن.. كان يرشه.. في كل منطقة من جسده الأصفر.. والشاب يصارع.. تحركت قدماه ويداه
في كل الاتجاهات.. ثم بدأ زبد أبيض يتكوم على فمه.. "لا لا.. لا تموت.. لا
تموت" يصرخ "يا الله.. يا الله".. لكن قدر الشاب كان أسرع..
لفظ نفسه الأخير.. فسقطت أطرافه على الأرض.. ونام إلى الأبد.
مع موت الشاب الأول..
تأكد للجميع أن سلاحاً كيميائياً قُصفت به دوما قبل قليل.. وأن الموت انتشر في
الهواء.. في كل مكان.. وبدأت أفواج المختنقين تصل إلى المشفى.. زمراً زمراً.. كلهم
تظهر عليهم ذات الأعراض.. اختناق وضيق في التنفس.. توسع العينين كمن رأى ملك الموت
ذاته.. ورجفة في الجسم كأن تياراً كهربائياً مسّه.. ورعب.. الموت الذي يأتيك
بالصاروخ أنت تعرفه.. لكن الموت الذي يأتيك مع الهواء النقي تجهله.. فتخافه.
يا أيها الموت خذ منا من
شئت.. خذنا دفعة واحدة أو فرادى.. خذنا أشلاءاً بصاروخ أو خذ منا عضواً مبتوراً
بشظايا برميل.. أو خذنا بكيماوي أو سلاح محرم دولياً.. لكن أخبرنا قبل أن تأخذنا
عن السبب
يا وجع الدنيا و قهر الرجال.. يا وجع
الأباء وأب يرى طفله يختنق أمامه.. وهو يقفز مكانه يحاول فعل المستحيل ليعيد
الأكسجين إليه.. يود لو أن يقتلع رئتيه ويهبهما له.. يود لو يركض به إلى أقصى
الأرض ليعود إليه نفسه.. يا وجع الأبناء و ابن عاجز يرى أمه ممددة أمامه ..اجتاح الكيماوي جسدها بينما كانت بانتظار عودته.. نهشها نهشاً قبل أن يفتك بها
وترخي جسدها له
أمشي في الشوارع المهدمة
أهذي وأبكي.. أبكي على ما أصابنا .. نحن المضرجون بالألم حتى أخمُصنا ونكابر.. نحن
الذين امتلأننا بالحزن حتى فاض.. ونحن الذين أكَلَنا الموت سبع سنوات.. وما زلنا نلعب
معه الغميضة.. ننجح في الاختباء منه مرة ونفشل مرات
يا أيها الموت خذ منا من
شئت.. خذنا دفعة واحدة أوفرادى.. لكن أخبرنا قبل أن تأخذنا عن السبب.. ما الذي
يجعلك تفتك بطفل لم يعرف من الدنيا إلا ثلاث سنوات قضاها كلها في الحصار.. أو
امرأة مسكينة أو شاباً في مقتبل العمر.. أخبرهم عن السبب قبل أن تقبضهم.
كان الهدوء يخيّم على
حارتنا على غير العادة.. حتى في أسوأ الأيام كان لا بد أن أرى جارنا العجوز
يجلس أمام باب بيته.. و بعض الصبية يلعبون الكرة و بالرغم من كل شيء تعلو أصواتهم على صوت القصف ..
.
وقفت أمام البيت ألتقت
أنفاسي ثم فتحت الباب بهدوء ودخلت.. أتقدم بجسدي خطوة ويعود قلبي خطوات.. أحبس
أنفاسي.. أفكر أن أعود للبحث عن الشوكولاتة في أي مكان.. صحيح أنني كذبت على طفلي
مرات عديدة.. لكنني صدقاً صدقاً أود أن أعود لأجلب له شوكلاتة الآن... أمشي
ببطء داخل المنزل.. الأكيد أنهم ليسوا في الصالة.. في أوقات القصف الكثيف نهرب من
الصالة خوفاً من الزجاج والشظايا.. المكان -الذي نظنه- أكثر أمناً في البيت هو
الممر الذي يجمع المطبخ والحمام والغرف.. ممر صغير بعرض متر وطول مترين.. نتكوّم
فيه كقن دجاج.. أكتافنا إلى بعض ورؤوسنا إلى الأرض.. نتشهد وندعو ..
أفكر في كل المرات التي جلست فيها في ذلك الممر.. وأدعو الله أن لا أجدهم في الممر..
لكنني وجدتهم!
تجلس زوجتي متربعة..ظهرها إلى الحائط و رأسها يميل على كتفها الأيمن نائمة.. أقول لكم إنها نائمة.. تعبت من شدة التعب و الرعب فنامت.. طفلاي ينامان على بطنهما في حجر أمهما بطريقة غريبة.. تقدمت إليهما و رفعت ابني أولاً... لما نظرت إليه كانت عيناه بيضاوين تماما و فمه مغطى بالزبد.. رفعت ابنتي.. فمها أبيض و عيناها تحدقان إلى السماء.. ضيوفي تكوموا فوق بعضهم ومعهم زوار أخرون..بالممر الصغير و الحمام و عند باب المطبخ
جارتنا السبعينية.. نهش السرطان جسدها عشر سنوات ولم يقدر عليها..سرى الكيماوي في جسدها أربع مرات و في كل مرة تنجو بقدرة الله و رباطة جأش عجيبة..ثم يأتي كيماوي الأسد فيجتاح جسدها مرة أخيرة و يقضي عليها..أظنها لو قامت لضحكت من سخرية القدر ثم عادت لرقدتها المريحة إلى يوم القيامة
أنظر إلى زوجتي... آه يا أجمل من في الدنيا..يا سيدة نساء الأرض..ٌقومي و ضميني.. لا تتركيني في هذا الظلام الذي لا ينتهي..سأخرج..و الله سأخرج..ألم تكن تلك هي أمنيتك التي لم تخبريني بها قط؟ليُفتح الطريق الآن و سأخرج.. سنذهب إلى أهلك و تتخلصي من هذا العذاب الدائم..و لتذهب الغوطة إلى الجحيم..أهناك أصلا جحيم أكثر من هذا؟
أظنك شممت الرائحة و لم تستطيعي القيام..ضممت الطفلين لما عرفت انها النهاية و استعددت لرحلتكم الأخيرة إلى السماء.. ثم تذكرتِ.. قبلتنا الأولى..ضحكتنا الأولى .. لمستنا الأولى ..فسالت من عينيك دمعتان ما زلت أرى أثرهما بعد أن جفتا..أم أنك بكيتِ ألماً لمرأى طفليك..و لدك يتشبث بك و الزبد يغطي فمه الصغير يبصقه في وجه عالمٍ قذر ثم يرحل..ثم تتبعه أخته.. ثم أنت في النهاية
يا رب الوجع... و رب الصبر.. و رب الغوطة
اسمي محمد.... و يا ليتني كنت معكم.. و ياليتني أنا الذي استنشقت كل كيماوي دوما
القصة حقيقية بكل تفاصيلها و أحداثها و أبطالها..
رواها صاحبها محمد عامر
الذي فقد زوجته علا و ابنته سلمى و ابنه آدم
و تركني بعدها أسيرة القهر و العجز و قلة الحيلة
في هذا الممر