و أخيراً جاء الخميس!
زفرت
بارتياح و هي تسرع الخطى في اتجاه المحطة..تسارعت دقات قلبها في لهفة وترقب لم
يخفتا بمرور الأسابيع و الشهور..بالرغم من أنها على يقين أن الاعتياد يقتل اللهفة
ضمن ما يقتل..الا أنها منذ اكتشافها الطريق إلى عم "محمد" اعتادت تلك
اللهفة..كما اعتادت ابتسامته التي لم ينقص من جمالها وطيبتها سن ناقص و اعوجاج واضح في الأسنان الباقية..ابتسامته تنجح دائما في استحضار ابتسامة من يلتقي بصديق
قديم..تبحث عنده كل مرة عن صديق نهاية الاسبوع الجديد!
تلمع عيناها وهي تمر سريعا فوق صفوف الكتب المرصوصة فوق
الحامل الخشبي تستمع بألوانها المتناغمة و المتنافرة على السواء..ثم تتأنى لتبدأ
رحلتها مع العناوين..و في الخلفية يأتي صوته ملخصاً لما تحتويه بعض الكتب التي
تتوقف عندها أكثر من غيرها..تكاد تلتفت اليه بالسؤال الذي يلح عليها كل مرة..هل
قرأها كلها؟!..و حين يقع اختيارها أخيراً على احداها بمساعدته..تلتفت إليه وقد
اتسعت ابتسامتها.."على ضمانتك"..فتتسع ابتسامته الأكثر كرماً.."لو
معجبكيش رجعيه"..و الحقيقة انها كانت دائماً ما تعود لتحمل صديقاً جديداً دون
أن تعيد أياً من الأصدقاء القدامى!
تحركت شفتاها تلقائياً استعداداً للإبتسامة المعتادة و
هي تخطو فوق رصيف المحطة في اتجاهه..,و لكنها لم تكتمل ..لأنه لم يكن هناك! وجدت
حامله الخشبي محطما فوق الرصيف ...وبعض أوراق اقتلعت من قلب حكايات باتت ناقصة..تدورحائرة
فوق الرصيف بحثاً عن ذويها.. رفعت عيناها لتواجه
وجوها اعتادت القهر و الفقر حد الادمان.. فتركا حول العيون تجاعيداً لا
علاقة لها بالسنين الراكضة خلف السراب..و داخلها لامبالاة تحول بينها و بين قراءة ما في القلوب دون الحاجة لأن تبوح به
الشفاة المطبقة ..وفوق الجباه عبوس بات ملمحاً أصيلاً تراه في كل الشوارع و الأزقة
و البيوت!
أين ذهب؟!..سألت أحدهم و هي تشير إلى الحطام و الأوراق..فأشار
بعينيه سريعا للاتجاه المعاكس دون أن يحرك أي ملمح من ملامح وجهه تعبيراً عن أي شئ!
سارت في الاتجاه المعاكس وسط نظرات التحذير و الدهشة
الصامتة..مزيج من اللونين الأسود و الكاكي..و وجوه مغطاة بالأسود لا تبدو منها سوى
عيون غاضبة لسبب غير معروف..و بنادق مشهرة في وجه "عم محمد"!! كان
جالساً فوق الرصيف واضعا وجهه بين كفيه, بجوار السيارة التي تحمل كتبه الممزقة وسط
صناديق حلوى مفتوحة و بضائع أخرى متناثرة رحل أصحابها يأساً أو خوفاً!
نادته فالتفتت اليها العيون الغاضبة و قد ازدادت
غضباً..رفع رأسه اليها فرأت عينيه وقد امتلأتا بدموع القهر و قلة الحيلة..حاولت أن
تقترب منه..فحالوا بينهما..حاولوا صرفه لكنه رفض أن يترك كتبه..فوضعوه معها ساخطين على روح سيضطرون لإطعامها بعد حبسها!!
سارت دون هدى..تتراقص أضواء المحلات و المقاهي الفاخرة -
المكتظة ببشر يدعون كغيرهم اللامبالاة- خلف دمعتين معلقتين رفضتا النزول..أبواق عالية
لا تليق بسيارات فارهة يسخط سائقوها الجالسون في التكييف خلف الزجاج اللامع على
بشر يحاولون شق طريقهم بصعوبة وسط زحام لا ينتهي..حاول أحدهم أن ينظر لأحد السائقين
معاتباً أو متذمرأ أو حتى غاضباً..فلم يرى سوى انعكاس وجهه العابس في الزجاج
اللامع.فأسرع الخطى هرباً منه و هو يتمتم.."ملعون أبو دي بلد" !