Monday 28 January 2019

تلك الأيام








الإثنين 28 يناير  2019

 أمُرُ بالطرقات التي مررنا بها من قبل.. أتوقف قليلا على الجسر الممتد فوق النهر العجوز.... لماذا لم تكن سخياً عندما عبرك الطيبون و الحالمون الذين خذلهم الجميع  و لم يعد لهم رفيق سوى خسائِرَهم  و منافيهم و أفراحهم المسروقة؟.. أصِلُ للميدان الموحش الذي هجرته الحياة منذ أن هجرناه ..اندثرَ كلُ شيء و لم يتبق ما يدل على أن زماناً ذاخراً بالفرح و الأحلام و الأحزان قد مر من هنا.. لم يتبقَ سوى الصمتُ الذي لا رجعَ له و لا صدىً..أما  أكثرُ ما يرهقُ الصامتين فهو ضجيجُ عقولِهم بالذكريات العنيدةِ التي لا تهادن و لا تلين.. يحملونها معهم  أينما ذهبوا فتضعهم أمام جراحهم  و خيباتهم في الوقت الذي تريد..

الثلاثاء 25 يناير 2011

 في الثانية ظهراً, وصلت الميدانَ المعلنَ عنه على صفحات التواصل الاجتماعي ضمن ميادين أخرى.. كان مزدحماً بالبشر كعادته.. كلٌ يمضي إلى وجهته.. لا شيء يبدو مختلفاً سوى صفين من جنود الأمن رُصّوا على الجهتين المقابلتين للميدان.. انتظرت  قليلاً دون أن أدري ماذا أنتظر و كدت أن أعودَ خائبةََ الرجاء حين رأيته قادماً..يسير بخطىٍ واسعة واثقة..أطول قليلاً ممن حوله.. عالياً مثل غيمة.. متفائلاً مثل زخات المطر الأولى..مبهجاً مثل صباحٍ شتوي رائقٍ يعدك بالدفء .. أو هكذا خُيلَ لي.. اجتمع حوله عدد قليل من الشباب  فوقفت بعيداً لأني كنتُ الفتاةَ الوحيدةَ.. أو هكذا صُوِّرَ لي.. تحركوا فتحركت خلفهم في حذر.. اضفت الصورة بألوانها المبهجة الدفءَ على الأماكن الباردة .. حفنة من الشباب تخترق شوارع المنشية الضيقة باتجاه وسط البلد يحيط بها من الجانبين صفان من جنود الأمن في زيهم الأسود يتقدمهم ضباط ذو رُتبٍ كبيرة ترتج أجسادهم الممتلئة اعتراضاً وهم يهرولون للحاق بالمسيرة ذات الخطوات الواسعة... كانت عيناى معلقتان بالشاب المحمول فوق الأكتاف لا تغادرانه إلا لتأملِ المشهدِ من حولي بتفاصيله الصغيرة.. تلك التفاصيل الصغيرة التي تحدث الضجة الكبيرة بداخلي فتغير ما تعجز المواقف الكبيرة عن تغييره .. التفاصيل الغير واضحة التي قد يتجاهلها الآخرون و أستمر وحدي بالغرق فيها... الوجوه العازمة و العيون التي تلمع في زواياها دموع الفرح فتضيق مع ابتسامات الامتنان ..الأصوات الهادرة التي راحت تعلو حتى لامست حافة السماء حيث تسكن الأحلام البعيدة و الحكايات المستحيلة.. ساكنو البنايات القديمة و قد خرجوا إلى الشرفات يلوحون و ينادون فنرد عليهم النداء " يا أهالينا ضموا علينا "..أصحاب المتاجر و قد غادروا متاجرهم  و وقفوا يتبادلون النظرات  الذاهلة..يصفق بعضهم لنا اعجاباً فنصفق لهم تقديراً و نمضي و قد اتسعت الابتسامات أكثر فوق الشفاه... الأعداد التي راحت تتزايد و ما عادت تقتصر على الشباب..رجال في منتصف العمر و فتايات و فتيان وعجائز يتكئون على عصيهم أو على سواعد الشباب..السيارات المتوقفة طواعيةً دون أدنى تذمر لتفسح لنا الطريق.. فيصبح كلَه ملكاٌ لنا على امتداد البصر و الأحلام.. أعود لأبحثَ عن الشاب المحمول على الأكتاف فلا أجده  وسط كثيرينَ يشبهونه  فأطمئن وأبتسم و أستمر في التقدم للأمام...

الخميس 27 يناير 2011

الوقت  قبل الغروب بقليل.. يندفع الميكروباص في الطريق الصحراوي الواصل بين المدينتين ..أستند برأسي على زجاج النافذة  وأتابع قرص الشمس الأحمر و السيارة  تنهب الطريق خلفه..تلاحقه  و لا تلحق به حتى يغيب..ما زال صوت أمي  يطاردني و اتهاماتها المرسلة لنا بالطيش و الحماقة  تؤّرقُني..آه يا أمي لو تعلمين.. نحن لا نعتنق الحماقة عشقاً لها ,إنما لأننا نرى فيها خلاصنا الوحيد...ضاقت بنا الأرض حتى صارت كخرم إبرة أو كزفرة هاربة من غريق..سُرقت منا أحلامُنا بعد أن تأخرت في صدورنا حتى فسدت و تراكمت فوقها أتربة اليأس و النزق والعجز المقيت...كم من المسالك أخطأنا و نحن نظن أننا على الطريق الصحيح .. نبحث عن وطننا الخفى الذي لا يراه سوانا و الذي توقف عن النمو بداخلنا منذ زمن بعيد.. نحاول أن نصالح مدنَنا المتعبة و ننزع عنها قبحها و لا نترك فيها إلا ما تتوق نفوسنا إليه.. نمنحها و تمنحنا أحلاماً نظيفة لا تشوبها شوائب السنين  .. نحول اليقينَ إلى شكوكٍ و الشكوكَ إلى يقين .. صوت المذياع  يأتيني بأغنيةٍ لم أسمعها منذ أعوام فكنت كمن يسمعها للمرة الأولى.. " حبيبتي من ضفايرها طل القمر.. وبين شفايفها ندى الورد بات.. ضحكتها بتهز الشجر و الحجر و حنانها بيصحي الحياة  في النبات...."

الجمعة 28 يناير 2011

صلاة الجمعة بمسجد الإستقامة... رجال الأمن يُطَوِقون  المصلين من كل جانب.. أتجه ناحية المصلّى المخصص للنساء و أهِمُ بالدخول فأجد شرطياً شاباً ينتظر دخولي ليغلق الباب خلفي بالمزلاج حتى يمنعننا من الخروج  بعد الصلاة.. أُحَذِرُ النساء في الداخل فيخرجن جماعات  ليصلين خلف الرجال في العراء.. نقف استعداداً للصلاة  و في مواجهتنا يقف الجنود  في كامل عتادهم  و نظراتهم الخاوية.. أتوجه ناحية الشرطي الشاب و أخبره بأنه من غير اللائق أن يحدقَ جنوده فينا و نحن نصلي فيعتذرُ ويأمرهم أن يديروا وجوههم فيفعلون.. تنتهي الصلاة  فيرتفع  الهتاف مجلجلاً في الحال " عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" يتحرك طوفان البشر المتلاصقين بقوة دفع لا أدري من أين جاءت ليخترقوا الحاجز الأمني و يزيحوا الجنود عن الطريق.. نتقدم قليلاً ثم تنطلق صوبنا أولى القنابل المسيلة للدموع...تباغتني الأحاسيس التي لم أختبرها من قبل و لم أتوقعها فتزيد المفاجأة الأمور سوءاً...يحيط بنا الدخان  الأبيض الكثيف فيحجب الرؤية و تُزكِمُ الرائحةُ اللاذعةُ الأنوف فيصبح معها التنفسُ مستحيلاً, نحاول إلتقاط أكبر قدر من الأنفاس فيزداد الوضع صعوبة.. تتسارع دقات القلب و تتوالى نوبات السعال, تنساب الدموع لا ارادياً من العيون و تحترق الوجوه و الأغشية... تفرَّقَت الجموع و ظننت أن الأمرقد انتهى أو أوشك على الانتهاء..  لكن أحد الشباب وقف في منتصف الطريق يهتف بملء الصوت " "متعبناش متعبناش.. الحرية مش ببلاش"..  لا أدري من أين جاء الصدى الذي راح يردد صوته مراتٍ و مراتٍ  فيتركه عالقا معلقاً بين ذرات الهواء! تلاشت أٌثار الغاز تدريجياً و صفا الهواء و رق  فتجمع حوله المتفرقون من جديد و واصلنا المسير...على مدار اليوم و الكر و الفر.. صارت الجموع أكثر تنظيما و خبرة..  سُدت فتحات الأنوف بشرائح البصل- التي ألقاها الأهالي للسائرين- و من فوقها وُضعت الأقنعة الواقية.. بُللت الوجوه  بالمياة الغازية  و الخل و مُلئت الدلاء بالماء لالقاء القنابلِ فيها و ابطالِ مفعولها.. بعض الشبابِ الأكثرِ جرأة كانو يلتقطون القنابل و يردونها لأصحابها مرة أخرى. كانت الريح أحياناً تفعل فعلهم فترد الغاز خائباً مدحوراً من حيث جاء.. لم يكتفوا بالقنابل بل أضافوا إليها الرصاص المطاطي الذي كان موجها في البدء ناحية الأرجل ثم راح يرتفع لأعلى كلما ازدادت حدة الأمور  فزدادت معها وخامة العواقب وضاعت العيون.... اختبئنا داخل الحرم الجامعي بعد أن اعتلى بعض الجنود الأسطح و بدأوا في اطلاق الرصاص الحي..دخلنا حديقة الحيوان هربا من الغاز الخانق الذي غطى سماء المدينة و تشربت به أرضها فتسرب من شقوقها لأنفاق المترو و عالمها السفلي المنسي.. حين عبرنا البوابة الضخمة المهيبة كنا كمن  عبر بوابة الزمن لمكان غير المكان و زمانٍ غير الزمان.. أطفال يركضون  و يلعبون الكرة و يتضاحكون فتطغى أصوات ضحكاتهم الصافية على أصوات السرائن القبيحة و تغطي رائحة الطعام الشهي الذي أعدته الأمهات الطيبات على روائح الغاز و البارود و الموت المتربص بأناة.. عاد الشباب أطفالا في لمح البصر.. ألقوا الغضب و الخوف و القلق جانبا و شاركوهم اللعب و الضحك و راحة البال.. و كأن ما كان لم يكن و ما سوف يكون غير كائن.. لحظات كحلم مسروق وسط ليل طويلٍ لا آخر له..افترشت العشب الندي و اخرجت هاتفي المحمول و رفعت الصوت لأقصى حد.."حبيبتي بتعلمني أحب الحياة.. من حبي فيها حياتي شمس و ربيع.. و الحب في الدنيا دي طوق النجاة لولاه يضيع قلبي المحب الوديع" 

وصلنا شارع قصر العيني بعد العصر بقليل و قد نال منا التعب ما نال, فكنا بين الحين و الآخر نستريح في مداخل البنايات التي يفتحها لنا أصحابها مرحبين..نفترش الأرض و الدرجات و نتناول الأطعمة البيتية التي أًعدت على عجل و نحتسي الشاي الساخن الذي يُقدم لنا مصحوباً بالدعوات.. فُتحت لنا البيوت التي لا نعرف قاطنيها و لا يعرفوننا كي نتصل بذوينا و نطمنئهم من هواتهفهم الأرضية بعد أن تآمرت علينا شبكات المحمول. عرفنا من الأهالي المتابعين لما يحدث أن الشرطة قد انسحبت أخيرا و أن الطريق إلى التحرير قد بات مفتوحاً لنا.. صُور لنا أننا قد انتصرنا في أولى معاركنا الكبيرة فحق لنا أن نحتفل بهذا النصر الصغير..خرجنا إلى الطريق الممتد أمامنا و عدت أنا لتأمل تفاصيلي الصغيرة.. اختفى التوتر و التحفز من الوجوه و حلت محله الابتسامات المتعبة  و نظرات الأمان و الاطمئنان.. سار البشر في جماعات متفرقة و خطىٍ و ئيدة و كأنهم يعيدون اكتشاف الأماكن من حولهم و يرونها بعيون غير العيون.. جلس البعض على الأرصفة يتبادلون الأسامي و العناوين و المدن البعيدة التي جاءوا منها.. كتب أحدهم على جدارٍ خالٍ و كأنما يلخص لهم الحكاية.. " لا يهمني إسمك.. لا يهمني عنوانك..لا يهمني لونك و لا مكانك.. يهمني الانسان و لو ملوش عنوان.. يا ناس يا مكبوتة هي دي الحدوتة.. حدوتة مصرية"  جلست على الرصيف و أرحت رأسي على كتف امرأة لا أعرفها فأحتوتني ..أستطيع أن أجزم أنني في هذا اليوم تحديداً  وقعت في حب الوطن من جديد .. و كأنني أراه للمرة الأولى, وطنٌ يكفي الجميع و يفيض..قلبه واسع و دينه رحب.. أطيافه متعدده و يقينه واحد لا شك فيه..  طرقاته و أرصفته تتسع للجميع حتى و إن ازدحمت بهم لكنها أبدا لا تضيق..أشجاره تظلل العابرين و التائهين و العائدين..  و جدرانه شواهدُ على  أبنائه و أسمائهم  و ملامحهم و أحلامهم الممكنة التحقيق.." للحلوة قلب كبير يضم الولاد.. و زاد و زوادة و ضلة و سبيل.. الموت و الاستشهاد عشانها ميلاد و كلنا عشاق ترابها النبيل" رفعت رأسي و رأيته..أطول قليلاً ممن حوله.. عالياً مثل غيمة.. متفائلاً مثل زخات المطر الأولى..مبهجاً مثل صباحٍ شتوي رائقٍ يعدك بالدفء.. جاء كما جئت من مدينتا العاشقة للبحر للمدينة العاشقة للنيل.. ابتسمت له  وابتسم لي  و أغمضت عيني و استرحت... غفوت قليلاً أو هكذا صور لي.. سمعت في حلمي صوت سيارة مسرعة و مكابح عالية و صوت ارتطام المعدن بالأجساد الحية ثم أصواتَ صرخات و بكاء و عويل.. فتحت عيني كي أفيق  من كابوسي الغير متوقع لأجده على الأرض أمامي و قد غطت دمائه وجهه و تناثر بعض منها على ملابسي.. رأيت وسط غيمة من الدموع شباباً يركضون خلف سيارة دبلوماسية بيضاء أخرج أحدهم من بابها الخلفي الموارب فوهةَ سلاحِه الآلي و راح يطلق الرصاص عشوائياً حتى غاب عن الأنظار... رأيت انكسار الحلم في العيون وسمعت صيحات العجز التي تدمي القلوب .. رأيتهم يخبطون برؤوسهم على الجدران المزدحمة بكلماتهم  و يشعلون النار في كل ما حولهم فتتأجج مع لهيب الغضب الذي اندلع بداخلهم فأحرق الأحلام المولودة للتو.. تداخلت الصور أمامي و غامت الرؤية .. تردد الصدى في أذني و أنا أسقط على الأرض فاقدةً الوعي " في حضنها بنرتاح و نلقى الأمان.. نعيشه حتى إن متنا فيها نعيش"..
















No comments: